بقلم : عادل الأسطة
تخلو صحف العالم العربي في هذه الأيام مما كانت تحفل به في خمسينيات القرن العشرين وستينياته وسبعينياته وثمانينياته، بخاصة صحف الدول الملكية التي حسبت تقريبا على المعسكر الغربي.في تلك العقود غالبا ما كان المرء يقرأ في الصحف إعلانات يتبرأ فيها بعض المواطنين، ممن انضووا تحت لواء الحزب الشيوعي أو بعض المنظمات اليسارية، من أحزابهم. وغالبا ما كان ذلك باتفاق مع المحققين الذين يقايضون السجناء بالإفراج عنهم - إن هم تخلوا عن انتمائهم السياسي ونشروا هذا علنا في الصحيفة الرسمية، وكانت تضاف إلى عبارة الاستنكار عبارة ولاء لجلالة الملك وحكومته الرشيدة.
ما كان ينشر في الجرائد حول هذه الظاهرة وجد طريقه إلى النصوص الأدبية، وما على القارئ إلا أن يتذكر بعض الروايات وبعض السير الذاتية التي كتبها مناضلون رفضوا التوقيع، وهذه الكتب والسير معروفة ومشهورة عموما، ويضاف إليها أولا وقبل كل نص قصيدة الشاعر العراقي مظفر النواب "براءة" التي كتبها باللهجة العامية العراقية ونشرت في أعماله الشعرية الكاملة الصادرة عن دار قنبر في العام ١٩٩٦، وغالبا ما قرأها الشاعر بصوته هو الذي اختلف مع حزبه، ولكنه ظل وفيا له كما كتب في قصيدته "ثلاث أمنيات على بوابة السنة الجديدة":
"وأوافيهم على بعد
وما عدنا رفاق".
في قصيدته التي كتبها على لسان الأم ولسان الأخت بالعامية العراقية تتبرأ كلتاهما من الابن/ الأخ الذي استنكر حزبه:
"يا بني
كيفن تهدم حزب بيدك
بنيته...
يا شعب
هذا ال تشوفه مو ابنا".
ما الذي ذكرني بالفكرة والقصيدة؟
في الفترة الأخيرة كنت أقرأ في "دفاتر فلسطينية" لمعين بسيسو و"شموس الغجر" لحيدر حيدر، وقرأت عن المخبرين والمرتدين وتجادلت طويلا مع فلسطينيين في الأرض المحتلة ١٩٤٨ حول أسطر وردت في كتاب بسيسو؛ أسطر أدرجتها على صفحتي ومنها ما يخص العائلة التي آوتها عائلة معين إذ صار أحد أفرادها ناصريا ولاحق معين الشيوعي وأخبر عنه ودل على بيته، ومنها ما يتعلق بيساريين ارتدوا عن يساريتهم.
في "دفاتر فلسطينية" يكتب بسيسو عن تجربة الشيوعيين في السجون المصرية ويتوقف أمام مقايضة السجان السجين، والفكرة نفسها تظهر في "الأقدام العارية" للمصري طاهر عبد الحكيم، وقد هاجم معين المستنكرين هجوما عنيفا.
في روايات السجن مثل رواية عبد الرحمن منيف "شرق المتوسط" لا تغيب الظاهرة، إذ يطلب من رجب، الشخصية الأساسية في الرواية، أن يستنكر حزبه ويوقع على ذلك حتى يسمح له بالسفر إلى فرنسا للعلاج، ولا تغيب أيضا في رواية "شموس الغجر"، فالشخصية الأساسية التي تتولى السرد تروي حكايتها وحكاية أبيها الرجل الذي كان علمانيا يساريا قرأ الماركسية وتثقف بها وربى أبناء أسرته تربية تحترم العقل والتحرر والتنوير وتعتمد على الذات والعمل في الأرض، الرجل اختلف كليا بعد أن اعتقل وعذب، ولم يخرج من السجن إلا بعد أن تبرأ من ماضيه وخضع لعملية غسيل دماغ من أبناء طائفته وصار مؤمنا يعيش في الماضي ويسير على خطى الأسلاف يقرأ كتبهم ويتصرف تصرفاتهم تماما؛ في نمط حياتهم وفي نظرته إلى المرأة وتعامله معها، ما يدفع ابنته التي أنشأها على الحرية والتنوير إلى الاختلاف معه والهرب من بيته.
هل عرفت فلسطين والأدبيات الفلسطينية هذه الظاهرة ؟ وهل خلت صحفنا من إعلانات البراءة؛ براءة الأهل من أحد أفراد العائلة؟من المؤكد أن صحفنا لم تخل من "إعلان براءة" تتبرأ فيه عائلة من أحد أفرادها لسبب وطني أو اجتماعي، وغالبا ما كان التبرؤ من العملاء والسماسرة وبائعي الأراضي أو لخروج شخص على العرف الاجتماعي خروجا لافتا.
هل كتب أدباؤنا قصصا وروايات وقصائد يتبرؤون فيها من المتساقطين؟
هل كتب ذلك راشد حسين على لسان فتاة احتقرت خطيبها لأنه دفع مهرها من بيع أرضه "وبعت التراب المقدس يا أنذل العاشقين لتدفع مهري" وهل هجا توفيق زياد أحد رفاقه لأنه ترك الحزب "المرتد"/ "أنا من هذي المدينة"؟
في قصة أكرم هنية "كل شيء وهذه النظرة بالذات" يكتفي أهل السمسار بمقاطعته ولكنهم لا يتبرؤون منه.
مؤخرا، انشغلت بالشاعر العراقي سعدي يوسف وما آل إليه. لا بد من كتابة خاصة.
قـــد يهمــــــــك أيضــــــاُ :
ناشرون يبحثون عن كتاب
حزيران الذي لا ينتهي