بقلم : عادل الأسطة
قبل أربع سنوات، أخذت يوميا أسترجع ما بقي عالقا في الذاكرة من حزيران ١٩٦٧ إلى حزيران ١٩٨٢، وأنجزت، على مدار سبعين يوما تقريبا، شظايا سيرة جعلت عنوانها «حزيران الذي لا ينتهي».أول من أمس، مر الخامس من حزيران، وكان في ذهني أن أكتب عن «حزيران في الأدب العربي» ولكنني لم أفعل، فقد استبد بي الكسل ولم أكمل إعادة قراءة رواية حيدر حيدر «حقل أرجوان» التي كنت قرأتها في بداية ثمانينيات القرن العشرين وظل بعض شخوصها راسخين في ذاكرتي.
لقد وجب أن أعيد قراءتها لكي أنجز كتابي الذي أعكف عليه منذ نهاية العام الماضي «صورة الفلسطيني في الرواية العربية»، ولقد لاحظت أن الكتابة عن حزيران في «حقل أرجوان» تشغل مساحة واسعة ذكرتني بكتابات نزار قباني ومظفر النواب وعبد الرحمن منيف وسيطرة النزعة المازوخية فيها، وأشعار توفيق زياد ومحمود درويش وسميح القاسم التي طغى عليها التفاؤل رغم الهزيمة.وأنا جالس في البيت، لم أسمع صوت الطائرات الأردنية تعبر سماء مخيمنا، ولم أشاهد دبابات الجيش الأردني تعبر الشارع الرئيس متجهة نحو الجبهة، ولم أصغ إلى إذاعة صوت العرب يهدر فيها صوت أحمد سعيد يذكر عدد الطائرات الإسرائيلية التي تم إسقاطها، ولم أشعر بفرح ما لاقتراب عودتنا إلى يافا التي كنا، كل صباح، في طابور المدرسة، نغني من أجل العودة إليها والخلاص من حياة المخيم وحليب الوكالة البارد المر تارة والساخن الحلو طورا أو العكس. وأنا جالس، أخذت أفكر في مجلس النساء في رواية عاطف أبو سيف «الحاجة كريستينا» وفي مديرة مدرسة المخيم وداد. والصحيح أنني منذ عام وأنا أفكر في أمر وداد وأتساءل إن كنت شخصيا سأسلك سلوكها ذات يوم.
يوم الخميس، ذهبت إلى الجامعة للحصول على براءة ذمة طلبتها مني الدائرة المالية في الجامعة، حتى أحصل على ما تبقى لي من مستحقات عمل استمر سبعة وثلاثين عاما، وكان لا بد من أن أسلم مفاتيح مكتبي الذي لم أنتقل منه إلى مكاتب أخرى بعيدة عنه، ولا أدري لماذا لم أشعر بحزن وأنا أسلم المفاتيح، قدر ما شعرت بفرح ورضا ولم يلم بي ما ألم بوداد.في فصل عنوانه «مجلس النساء»، يروي الراوي قصص شخصياته النسوية في بيئة المخيم ومنهن مديرة المدرسة وداد التي انتهى عملها لبلوغها السن القانونية فشعرت بحزن كبير، لأن المدرسة القريبة من بيتها صارت جزءا منها، لدرجة أنها عرضت على مسؤولي وكالة الغوث أن تظل على رأس عملها ولو بلا راتب، فماذا ستفعل حين تجلس وحيدة في البيت؟
وأنا أترك المكتب، نظرت إلى رفوف كتبي الكثيرة فيه، واحترت ماذا آخذ منها. أآخذ نسخ إصداراتي أم آخذ ما اشتريته من مؤلفات الآخرين؟ ووجدتني أختار ديوان محمود درويش «لا تعتذر عما فعلت»، وفي الطريق وجدتني أحور في العنوان «لا تعتذر عما كتبت»، فما كتبته عن المؤسسة مدحا أو هجاء هو ما كنت أشعر به زمن كتابته.هل فكرت في يوم من أيام السنة المنصرمة التي تقاعدت فيها أن أسلك سلوك وداد؟مع أنني لم أنقطع كليا عن الجامعة، لأنني ما زلت مرتبطا بها، حيث أشرف على ثلاث رسائل ماجستير قد أحتاج إلى عام آخر للانتهاء منها إلا أنني لم أشعر بفراغ، ولم أشعر أنني خسرت «حلما جميلا»، كما خسر العرب حلمهم في حزيران ١٩٦٧ بتحرير فلسطين.
هل التقاعد حقا أمر مزعج؟
حتى الآن ما زلت مسرورا به، ولهذا رفضت غير عرض بالتدريس الإضافي.
وأنا في الطريق من الجامعة إلى البيت، التقيت أحد طلاب الدراسات العليا، فسألني:
- لماذا لا تدرس مثل بقية زملائك الذين أنهوا عملهم من قبل؟
فأجبته بأنني لم أوافق على عرض الجامعة بالتدريس الإضافي (Part time)، وهنا نطق الطالب عبارة «يعني فضلة»، فابتسمت وواصلت طريقي، ولم يكن ثمة أصوات طائرات (هوكر هنتر) أردنية في الجو تشارك في المعارك، ولا حتى أصوات طائرات (ميراج) إسرائيلية تغير على الدبابات الأردنية في وادي التفاح في نابلس التي شهدت معركة استبسال «أبو هاشم»، لينتهي الفصل الأخير من حرب الأيام الستة، من حرب حزيران الذي لم ينته، حزيران الذي لا ينتهي.
فماذا كتب حيدر حيدر في روايته عن تلك الحرب؟
لا بد من قراءة الرواية، فالعبارة تضيق ولم تتسع المساحة.