بقلم : عادل الأسطة
لم يكن ملاك ملاك الفلسطيني الوحيد في «سينالكول»، فقد حضر فلسطينيون آخرون منهم من شغل منصب أستاذ في الجامعة الأميركية، وكان في تدريسه يصر على أن يستخدم طلابه الأسماء الحقيقية:«هذا البحر»، قال الأستاذ وهو يشير بيده إلى النافذة، «كنا نسميه البحر الأبيض، إلى أن فرض علينا الغربيون استخدام اسم المتوسط، فنحن نعطي بحارنا أسماء من الألوان، لأن عيوننا لا تراها سوى ملونة، لذا فأسماء بحارنا هي الأبيض والأحمر والأسود، وحده البحر الميت بلا لون لأنه مات».وكان الطلاب، حين يسمعون هذا الكلام من الأستاذ، يضحكون. لكن ما أضحك الطلاب فهمه كريم اللبناني، وهو مع المرأة، لاحقا «حين رأى جسمها ملتفا ببياضه، فلم ير أمامه سوى البحر».
إلى جانب الأستاذ هناك جوني الطالب الفلسطيني - الأردني «الذي طرد أيضاً من الجامعة».إن ما سبق يعني أن الفلسطيني كان حاضرا ومؤثرا وشغل مناصب متقدمة في لبنان، وهذا ما لا يختلف عليه، فأبرز دارسي الأدب العربي درسوا في الجامعة الأميركية في بيروت وعلى رأسهم إحسان عباس ومحمد يوسف نجم.على أن الشخصية الفلسطينية الأبرز في «سينالكول» هي شخصية الشابة جمال، وهي دلال المغربي. إنك عندما تقرأ قصة جمال تقرأ قصة دلال المغربي وعلاقتها بالشهيد خليل الوزير «أبو جهاد» الذي أشرف على عملية الشاطئ. تلتحق اللاجئة الفلسطينية بصفوف حركة فتح وتقود عملية فدائية جريئة. إنها تذكرنا بسعد في رواية كنفاني «أم سعد»، ولكن الفدائي في «سينالكول» هو أنثى تقود الرجال، وتشغل قصة جمال/ دلال حوالى ٢٦ صفحة (٢٥٢ - ٢٧٨)، بالإضافة إلى حضورها في صفحات أخرى.
يطلب أبو جهاد من كريم أن يكتب قصة جمال، وكان كريم تعرف إليها في معسكر بيصور العام ١٩٧٦، ولم تنته الحكاية بانتهاء اللقاء فقد «اتخذت مسارا آخر، وصارت بمثابة منطقة أمان للشاب الذي شعر بأن الحرب الأهلية تخلخل معاني وجوده كلها. جمال لم تكن قصة حب. كانت محاولة لتسلق حبال المستحيل، والتقاط التماعات البرق التي كانت تتساقط من عينيها، وهي ترى ما لم يكن كريم قادراً على رؤيته»، ما يعني أن الفدائية الفلسطينية، ابنة المخيم، ذات رؤية أوسع وأبعد وأعمق من رؤية بعض الرجال. ألم تقد دلال المغربي عملية الشاطئ ومعها ما لا يقل عن عشرة فدائيين ذكور؟تلتحق جمال بالفدائيين وتفضل جامعة الثورة على الجامعة، وقصدها أن تكون نموذجا للمرأة الفلسطينية المقاومة، مثلما صارت جميلة بوحيرد رمزا للمرأة الجزائرية.
تحقق لجمال ما أرادت، وعندما قرأ كريم تفاصيل العملية أصيب بالذهول وهو يراها ملقاة على الأرض، والضابط الإسرائيلي يعبث بجثتها «ها هي فتاة معسكر بيصور التي كان بعض الشباب يتذمرون من وجودها في معسكر التدريب مع الرجال، تثبت للجميع أنها الأشجع والأجمل والأكثر قدرة على التضحية بالذات. لقد أسفرت العملية التي قادتها عن استشهاد ثمانية وأسر اثنين وقتل ثلاثين إسرائيليا.كانت جمال فتاة مختلفة سمراء، بعينيين عسليتين كبيرتين، وأنف دقيق، وشفتين ممتلئتين، وشعر أسود قصير، وكوفية مربوطة على العنق، وكانت متبرمة من كل شيء وتصر على الكلام الدائم على الشهداء. إن جمال الفدائية من خلال انطباعات كريم عنها تذكر بالفدائي في قصيدة ابراهيم طوقان «الفدائي». إنها تحب بلادها وتقدم حياتها من أجلها، وإذا ما نطقت نطقت الدما وكانت يدها تسبق الفما.
كانت جمال تحت إمرة أبو جهاد قائد الثورة الحقيقي المعجب بنفس كريم القصصي، ولذا يطلب الاجتماع معه لكي يكتب كريم قصة جمال التي تركت مذكراتها، وفيها محاولات شعرية.«أبو جهاد ما بيشرب، وما بيحب يلي بيشربوا، نقطة على آخر السطر. بدك تناضل لازم تعرف وين انت عايش، يلا اشرب الشاي وخلصني، ما لازم نتأخر» يقول داني مخاطبا كريم، وداني الأنيق هو الثوري المحترف الذي يكون صلة الوصل بين «أبو جهاد» وبين كريم المنبهر بالفدائيين لدرجة أن نقده لهم كان يتلاشى حين يجد نفسه أمام البطولة.
لم يكن كريم مع اجتهاد «أبو جهاد» في إرسال الفدائيين إلى فلسطين، إذ رأى في ذلك عمليات انتحارية، وعبر عن رأيه بعبارة «حرام إرسال الشباب إلى الموت بهذه الطريقة، حرام يا أخ أبو جهاد».كان أبو جهاد يعرف عن كريم وعلاقته بجمال وكان قرأ له مقالة عن قلعة الشقيف وأعجب بها والتفت بشكل خاص إلى استشهاد كريم بقصة ابراهام يهوشع «أمام الغابات» التي قرأها كريم بالانجليزية. وهنا يتقاطع كريم مع الياس خوري عموما.
إن ما أراده أبو جهاد من كريم هو «أن يكتب نصا صغيرا بحجم كراس من خمسين صفحة، يروي حكاية جمال ويحولها إلى رمز للمرأة الفلسطينية».
ويأتي الراوي على اغتيال «أبو جهاد» في تونس وجنازته المهيبة في مخيم اليرموك.كان أبو جهاد ينظر إلى الفدائيين الشباب «زي أولادي» ويرى أن طريق المقاومة «ما بتوصل إلا على الاستشهاد» وأنه متأكد «أن اللحظة اللي بدي ألتقي فيها معهم قريبا، سوف تكون أسعد لحظة في حياتي» وهذا ما تحقق له في نيسان ١٩٨٨.تكتب جمال الشعر وتدفن بعد أن تستشهد في مقبرة الأرقام «حتى موتانا صاروا أرقاما، وهذه نقطة يمكن التركيز عليها للمقارنة بين الأرقام التي كانت تحفر على أذرع اليهود في معتقلات الموت النازية، وأرقام موتانا».وفكرة المقارنة بين الفلسطينيين واليهود فكرة أساسية في روايات الياس خوري وقد لاحظناها في «باب الشمس» ولسوف نلاحظها أكثر وأكثر في «أولاد الغيتو» بجزأيها.