ليست الدول الاستعمارية فقط هي من صنعت في منطقتنا دولاً، فالروائيون أيضاً يصنعون دولهم، ويتذكر القراء رواية منيف وجبرا المشتركة "عالم بلا خرائط" ومكانها الافتراضي "عمورية" كما يتذكرون للأول خماسية "مدن الملح" و"موران" فيها.
في أدبنا اخترع أيضاً روائيون مدنهم وقراهم مثل أحمد حرب في "الجانب الآخر لأرض المعاد" وأحمد رفيق عوض في "قدرون" ولست هنا في سبيل التقصي.
هل يقلد الروائيون الدول الكبرى؟
ليت الدول اخترعت دولاً من ورق! إذن لهان الأمر وما كان هناك الآن ستة ملايين فلسطيني في المنافي، ولما حدثت حروب ذهب ضحيتها مئات آلاف القتلى والجرحى.
جمال أبو غيدا في "تلاع الريح الديماس" (٢٠٢٠) يصنع دولة توازي بعض الدول التي أنشئت في ٢٠ ق ٢٠ في بلاد الشام، ويذكرنا البناء الفني لروايته بروايات سعى كتابها للتجديد واعتماد لعبة الترجمة والمخطوط للإيهام بأن ما نقرؤه هو عمل مترجم أو مخطوط تم تحقيقه، وقارئ الروايات في العقدين الماضيين يتذكر "عزازيل" يوسف زيدان و"ساق البامبو" لسعود السنعوسي و"تغريبة العبدي المشهور بولد الحمرية" لعبد الرحيم لحبيبي و"أولاد الغيتو: اسمي آدم" لالياس خوري، وغيرها من روايات خصصتها بدراستي "الرواية العربية في القرن الحادي والعشرين: لعبة الشكل، المابعد" ("ما بعد" في الأدب والنقد واللغة، أوراق المؤتمر الدولي السادس في الجامعة الأردنية/ دار كنوز ٢٠١٨)، ويجمع أبو غيدا في روايته ما بين تحقيق المخطوط كما فعل لحبيبي، وترجمة الكتاب كما فعل السنعوسي، فالرواية التي تسردها يمنى فيصل النذيرات، وهي امرأة في الستين من عمرها وحصلت على الدكتوراه من جامعات بريطانيا في موضوع "صنع تلاع الريح... الخرافة، السياسة، والهوية الإثنية" (The Making of TLARISTAN : Myth , Politics , and Ethnic Identity )؛ الرواية تتكون من ثلاثة متون هي:
- وهو الصفحات التي تسرد فيها يمنى عن طفولتها ودراستها وعلاقتها بالقراءة والكتب في"تلاع الريح".
- كتاب السير الكساندر جيبسون نايجل "وقت للحرب.. وقت للسلم ...تلاع الريح: بعث أمة"
" A Time of War...A Time of Peace
TLARISTAN Rebirth of A Nation "
وقد ترجمته عن الإنجليزية وصدر عن الثقافة العربية - لندن.
- كتاب الإمام العلامة المحدث النسابة أبو الحسن محمد بن تاج الدين بن زين الدين التلاعي الشهير بابن تاج الدين "البرهان الفصيح والقول الصحيح في أخبار تلاع الريح" اعتنى به وحققه: ماجد الفرهود، وقد صدر عن دار مكتبة بغداد للدراسات والنشر في بغداد.
وأبو غيدا يعيدنا إلى سؤال نشأة الرواية العربية واجتهادات النقاد والروائيين العرب حول أصولها:
- هل هي فن ولد من رحم الرواية الغربية أم أنه ذو صلة بالتراث السردي العربي ممثلا بألف ليلة وليلة وكتب السيرة الشعبية ورسالة الغفران والتوابع والزوابع وحي بن يقظان وما شابهها من مرويات سردية؟
وهو عموما يجمع في روايته بين السرد الروائي الغربي وبين السرد القصصي التراثي ويذكرنا بخصوص الشكل الثاني بجمال الغيطاني في "الزيني بركات" واميل حبيبي في "المتشائل" وغيرهما ممن تأثروا بالتراث في أعمالهم؛ لغة وأسلوب قص. فأنت وأنت تقرأ القسم الأول من الرواية وكتاب (نايجل) تقرأ لغة قص معاصرة تتناسب ولغة دارسة حصلت على الدكتوراه، ولكنك حين تقرأ كتاب "البرهان الفصيح.." تشعر أنك تقرأ في "ألف ليلة وليلة" وغيرها من كتب السير الشعبية، على صعيد الأسلوب والأحداث وجريانها.
ثمة ثلاثة أمور أود الإشارة إليها يتعلق الأول منها بحياة الساردة التي نشأت على حب القراءة، وقد شجعتها جدتها على ذلك فغدت شابة مختلفة عن بقية بنات جيلها، وصارت تقرأ في الكتب الأدبية والفكرية والسياسية الجادة وتشتري الكتب الممنوعة، وحين تحمل معها هذه الكتب بسيارة خالها سالم الذي انتمى ذات يوم إلى الحزب الشيوعي السوري ثم تركه، ويعرف، وهو يقترب من اجتياز الحدود، بأن في سيارته كتبا ممنوعة، يردعها ويسير في طريق فرعي ليدفن الكتب. هذه الحادثة تركت أثرا عميقا في داخلها ووجهت مجمل حياتها وجهة أخرى.
وثاني الأمور هي الإشارة التي أوردها الروائي في آخر صفحة من روايته بخصوص روايته ودولة "تلاع الريح"، فقد كتب الآتي:
"لا توجد بلد عربية اسمها تلاع الريح كما ورد وصفها في الرواية، لا من حيث التاريخ ولا الجغرافيا ولا الشخصيات التي ورد في الرواية أنها انتسبت إليها، وأي تشابه بين تاريخ وجغرافيا تلاع الريح وأي بلاد أخرى هو محض الصدفة".
وهذه الإشارة عموما تتقاطع مع ما جرى مع يمنى وإن دلت على شيء فإنما تدل على أجواء قمع الحريات في سبعينيات القرن العشرين وكان من مظاهرها منع الكتب التي تمس المحرمات الثلاثة: الدين والجنس والصراع الطبقي.
وثالث الأمور هو ما أنهى به (نايجل) كتابه "وقت للحرب... وقت للسلم" عن حياته في فلسطين والمنطقة ونصه:
"كذلك كانت أيامي في هذه التلاع الغارقة بأساطيرها وخرافات أهلها وخزعبلاتهم، التي لا تنتهي عن الشياطين والأفاعي الثنائية الرأس، والجنيات والجدين اللذين ستظل ذكراهما مؤبدة في هذه البلاد، بسبب الدماء التي أهرقت وما زالت تهرق على شرفهما، على أيدي أحفادهما البررة".
رواية "تلاع الريح"، فيما أرى، رواية ستثير أسئلة عديدة.