بقلم : عاطف أبو سيف
لم يكن تأسيس منظمة التحرير ردة فعل على النكبة فحسب، كما أنها، أي المنظمة، ليست مؤسسة سياسية فقط. كل تأسيس المنظمة استجابة لحاجة ماسة لدى الشعب الفلسطيني، بعد أن تمت محاولة اقتلاعه القاسية من أرضه إثر النكبة وتهجيره وتشتيته في بقاع الأرض الأربع، الحاجة كانت تقول: إن هذا الشعب حتى لا يندثر لا بد من وجود جسم تمثيل له يعبر عنه ويتحدث باسمه ويبادر بالفعل السياسي نيابة عنه. إن أحد أهم معضلات القضية الوطنية الفلسطينية، في قراءة استرجاعية للتاريخ الفلسطيني الحديث منذ فجر القرن العشرين، تمثلت في عدم وجود كيانية سياسية فلسطينية تستطيع أن تحمي التطلعات الوطنية وتعبر عنها وتمثلها. ولو وجدت مثل هذه الكيانية لصعب مثلاً تخيل إقامة كيان يغتصب دولة قائمة. ولعل كل مسلسل الانتداب وتفسيراته وصياغاته المراوغة وتبريراته القانونية الواهنة لم تكن إلا من أجل إعاقة إقامة وطن للفلسطينيين ودولة تقود حياتهم السياسية، وبالتالي ترك الساحة فارغة من أجل إحداث الخلاف بين المهاجرين الغرباء القادمين من القارة العجوز ليسرقوا البلاد من أصحابها. بل إن قراءة حيثيات القرارات الأممية تكشف كيف تم منح بعض البلدان الاستقلال قبل أسابيع من التصويت على قرار التقسيم حتى تصوت لصالح سرقة فلسطين عبر ما عرف بقرار التقسيم. وهذه حكاية أخرى تكشف حجم الزيف الدولي وحجم الظلم التاريخي الذي وقع على الشعب الفلسطيني.
بعبارة أخرى، إن غياب الكيانية الفلسطينية وتأخر ظهورها وإعاقة مثل هذا الظهور كان يتم بعناية ومؤامرة من دولة الانتداب حتى يتم سرقة فلسطين ومنحها للغرباء. وهذا ما تم. وهذا ربما يربطنا بالنقاش السطحي الذي يظهر بين فينة وأخرى ويطالب بحل السلطة، وكأن هذه السلطة منحة وهِبة من الاحتلال وإذا ما حللناها وانتهينا منها نغيظه ونعاقبه. وفيما السلطة الوطنية، وليعترض المعارضون ويقولوا ضدها مليون تهمة، إنجاز وثمرة تضحيات شعبنا وتتويج لمشروع وطني حمله الكفاح الوطني بالدم والسجن والآهات، فإن البحث في تطويرها أمر محتوم؛ لأن القصد هو تحقيق الكيانية الفلسطينية التي سرقت النكبة حلم تحقيقها. وهذا يجب أن يكون لسان حالنا وليس إطلاق النار على أرجلنا عبر مطالب الحل ودفن الرأس في الرمال.
إن التكوينات السياسية هي غاية الحراك المجتمعي التعاقدي. وإن نظرية العقد الاجتماعي جاءت في جوهرها لتفسير هذا التنازل الطوعي عن السلطة الفردية بما تمثله من جوهر السلطة المختصم عليها بين الأفراد لصالح سلطة جمعية تقوم بتنظيم حياة الناس. وبعبارة أخرى، إن التكوين السياسي هو التعبير الأشمل عن الإرادة الحرة للأفراد. طبعاً معارضو هوبس لديهم ما يقولونه ضد مثل هذه المقولات، لكن في المحصلة فالدولة ليست إلا ترجمة للإرادات الفردية، لذا اعتبرت الانتخابات والأشكال الأكثر قدماً وربما أقل تقدماً هي التعبير الأكثر بروزاً عن مجموع الإرادات الفردية في تقرير مصير وشكل الإرادة الجمعية.
يبدو هذا الحديث مهماً ونحن نمر بذكرى تأسيس منظمة التحرير. المنظمة ليست مجرد منظمة، بل هي إرادة. وهذا جوهر الشعار بأنها الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني. لأنه أيضاً جوهر التمثيل أنه شرعي ووحيد، فلا تتعدد الشرعيات ولا يتعدد التمثيل. بل إن وجود المنظمة جاء للتخلص من حالة التبعية التي فرضتها الحالة العربية على شعبنا الفلسطيني حين أريد له أن يبقى في الخيام فيما يقوم العرب بالتحدث عنه. وكما جاء في أدبيات المنظمة، فإن الشعب الفلسطيني وحده القادر على التعبير عن نفسه دون الانتقاص من العمق العربي والامتداد الإنساني. صحيح أن تأسيس المنظمة جاء ضمن حاجات عربية، لكنه بات بعد دقائق من تحقيقه ترجمة لحاجة فلسطينية. وحتى لا يتم ظلم الآباء المؤسسين قبل صعود فصائل المقاومة الفلسطينية إلى اللجنة التنفيذية بزعامة الشهيد ياسر عرفات، فإن هؤلاء كانوا يبحثون عن استغلال السياق العربي ورغبة العرب في التخلص من العبء الفلسطيني في ترجمة أحلام شعبهم وتطلعاته. فتأسيس المنظمة في المحصلة هو التعبير الأسمى عن هذه التطلعات. وفي جوهر كل النقاش كان ما ذكرناه آنفاً حول غياب الكيانية الفلسطينية وقت فترة الاحتلال الذي سمى زوراً «انتداب» من أجل تسهيل مهمة تهجير شعبنا. وكان الإحساس لو وجد مثل هذا الكيان لما تمت عملية سرقة فلسطين. وعليه فالمنظمة هي استعاضة وتعويض وبحث عن تمكين شعبنا من مواصلة أحلامه.
لم يكن عبثاً أن يطلق عليها درويش وطننا المعنوي فهي في المحصلة تعبير عن هذا الوطن المسلوب. الحقيقة أن النضال من أجل بقاء المنظمة لم يكن بأي حال نضالاً من أجل ذاته، بل من أجل الحفاظ على ديمومة التمثيل الفلسطيني وعدم ترك هذا الشعب من دون تمثيل. حتى لا يأتي كل يوم تنظيم جديد أو فريق جديد أو لاعبون جدد وجدوا في المال أو النفوذ الإقليمي ما يعزز توجهاتهم ويستولون على قرار الشعب وكفاحه. هذه الحقيقة يجب ألا تغيب عن بالنا ونحن نستذكر إصرار البعض على الهيمنة على المنظمة ومحاولات بعض القوى الإقليمية منذ عقود للسيطرة عليها عبر بعض التنظيمات أو رغبة بعض الوافدين الجدد على الكفاح الوطني بتصفية المنظمة إن لم يكونوا فيها. وأن يكونوا فيها تعني أن يسيطروا عليها.
لا يدور الحديث عن مؤسسة يمكن أن نعمل مثلها، أو أن يقوم كل ما يختلف معها بعمل تكوين آخر مقابل لها، بل مؤسسة وحيدة لا يصلح غيرها للحديث باسم الشعب الفلسطيني ونضاله. أليس هذا سبباً في أن المنظمة ظلت موجودة رغم وجود السلطة، بل كان سيصار إلى التأكيد على ولايتها القانونية على السلطة. فالمنظمة هي دولتنا الحقيقية إلى حين عودة الحق.