سنكون غير منصفين وساذجين إذا قلنا إن الشعب الأميركي انتخب قبل أربعة أعوام أسوأ رئيس في تاريخ بلاده، وإن هذا يعني بالضرورة أن هذا الشعب يتمتع بصفات منها «ضحالة ثقافته السياسية» و»عدم احترام المرأة» و»كراهية الآخر» و»الجشع» المتمثل بالرغبة في استعباد الدول الأخرى وسرقة خيراتها، وهي الصفات التي يمكن استنباطها من خطاب الرئيس ترامب لجمهوره.
هذا غير حقيقي وفيه تسطيح للأسباب التي دفعت جمهوراً عريضاً من الأميركيين لانتخاب ترامب سابقاً ولاستمرار عدد كبير منهم في تأييده إلى يومنا هذا.
مراكز استطلاعات الرأي في أميركا تشير إلى وجود ٤٠٪ من الأميركيين يرغبون في بناء جدار يفصلهم عن المكسيك ومثلهم يرغبون في فرض رسوم جمركية على الواردات من خارج بلادهم، وأكثر من نصف الأميركيين يرغبون في ترحيل المهاجرين غير الشرعيين.
في انتخابات العام ٢٠١٦، أكثر من ٥٥٪ ممن أدلوا بأصواتهم في الانتخابات التمهيدية للحزب الجمهوري، قالوا إنهم من أبناء الطبقة العاملة.
الكثير من هؤلاء يعتبرون ترامب ممثلا لهم ويرغبون في نجاحه في الانتخابات القادمة بعد أسبوعين.
لكي نفهم ظاهرة ترامب وهذا التأييد له علينا أن نعود قليلاً لعصر الرئيس بيل كلينتون، لندرك كيف انتقل الملايين من العمال البيض من تأييد الحزب الديمقراطي إلى معاداته وتأييد ترامب بصفته مرشحاً لهم من خارج النخبة السياسية التي حكمت أميركا لأكثر من قرنين من الزمان.
لم يتوقع ملايين العمال الأميركيين أن تؤدي اتفاقية التجارة الحرة مع المكسيك وكندا العام ١٩٩٣ (نافتا) والانفتاح التجاري على الصين العام ٢٠٠٠ إلى فقد الملايين منهم لعملهم بسبب انتقال المصانع التي يعملون فيها إلى المكسيك والصين.
الولايات التي تعرف بالمتأرجحة في أميركا والتي حسمت فوز ترامب في انتخابات العام ٢٠١٦، كانت تلك الولايات الأكثر تضرراً من سياسات «التجارة الحرة» في عصر كلينتون: غالبية عمال مصانع السيارات في أوهايو، عمال الألبسة في بنسيلفانيا وعمال الأثاث في نورث كارولينا فقدوا عملهم.
الاستيراد من الصين، وفقاً لدراسة أعدها ديفيد أوتر الباحث في معهد مساشوسيتس للتكنولوجيا، تسبب بين أعوام ٢٠٠٠ و٢٠١٠ بإخراج مئات الآلاف من أعمالهم في كل من ميتشيغان وويسكنسون وهي أيضاً ولايات متأرجحة، بسبب إغلاق أصحاب العمل لأعمالهم لعدم قدرتهم على منافسة البضائع الصينية.
ترافق ذلك كله مع احتلال المهاجرين غير الشرعيين للأعمال التي لا تحتاج لمهارة مثل تنظيف الفنادق والمطاعم والمقاهي والمستشفيات، قص الأعشاب، العمل في المسالخ...الخ.
منافسة الأميركيين البيض على هذه الوظائف التي لا تحتاج لمهارة أصبحت صعبة جداً، لأن المهاجرين غير شرعيين يقبلون بأجور وامتيازات عمل أقل بكثير من نظرائهم «البيض» بسبب عدم وجود وثائق قانونية معهم.
بفقدان الطبقة العاملة الأميركية وتحديداً في الولايات المتأرجحة، حيث الغالبية العظمى منهم من البيض، لعملهم زادت معدلات الفقر بينهم وارتفعت نسبة الجرائم والكثير من المشاكل الاجتماعية المرافقة للفقر والشعور بالقلق من المستقبل.
فقدان العمل وما ترتب عليه من مشاكل اجتماعية مضافاً له عدم القدرة على منافسة المهاجرين غير الشرعيين على الوظائف البسيطة التي بالكاد تكفي أجورها لدفع الفواتير الشهرية، أوجد ظاهرة العنصرية تجاه المهاجرين.
لذلك عندما كان ترامب ولا يزال يتحدث ضد اتفاقات التجارة الحرة وضد المهاجرين بشكل عنصري، فإن خطابه «الشعبوي» لا يزال يلقى آذانا صاغية من جمهور عريض من الأميركيين الذين شعروا بوطأة العولمة وعانوا منها.
المنظرون للتجارة الحرة يقولون إن «العولمة» خلقت أيضاً ملايين الوظائف البديلة، وهذا أيضاً حقيقي، لكنها خلقتها للفئات الأكثر تعليماً، التي يمكنها العمل من البيت في شركات التأمين والبنوك والمؤسسات المالية عموما، أو في قطاع التكنولوجيا حيث العمل لا يعتمد على المكان الذي يتم منه.
لكن قطاع العمال، القطاع الذي انتخب ترامب سابقا، وكان هذا العام أكثر تأييداً لبيرني ساندرز، كان ولا يزال القطاع الأكثر تضرراً من العولمة.
هذا الواقع لم يتغير منذ انتخاب ترامب.
الذي تغير هو أن ملايين العمال الذين صوتوا له سابقاً قد اكتشفوا بأنه مخادع وأنه لم يتمكن من إعادة مصنع واحد من المصانع التي غادرت أميركا إلى الصين والمكسيك، وبأن سياساته الاقتصادية لم تخلق فرص عمل لهم وأنها فقط قد مكنت الأغنياء من زيادة ثرواتهم من خلال تخفيض الاقتطاعات الضريبية عنهم.
هذا عدا عدائه الشديد للنقابات العمالية التي عمل على إضعافها وتفكيكها من خلال تشريعاته.
الذي تغير أيضاً، هو أن الحزب الديمقراطي ومن خلال مرشحه جوزيف بايدن يطرح سياسات جديدة تستقطب جزءا مهماً من الذين صوتوا لصالح ترامب العام ٢٠١٦. منها مثلاً فرض ضريبة إضافية تعادل عشرة بالمائة على دخل كل شركة تنقل معاملها إلى خارج الولايات المتحدة، ومنها خطة طموحة بقيمة تريليوني دولار للاستثمار في الطاقة المتجددة بهدف خلق ملايين الوظائف الجديدة للأميركيين خلال أربع سنوات.
هذه السياسات لا تشكل حلولاً جذرية للمتضررين من العولمة، ولكن عند مقارنتها بسياسات ترامب وتجربته في الحكم خلال السنوات الأربع الماضية وفشله في التعاطي مع أزمة «كورونا»، فإنها قد تكون ما قد يحسم الانتخابات لصالح منافسه بايدن.
مختصر الكلام من السهل القول إن الأميركيين أو الأوروبيين عنصريون بسبب انتخاب ترامب وتصاعد اليمين المتطرف في الغرب، لكن المسألة أعمق من ذلك بكثير وهي مرتبطة بظاهرة العولمة واقتصاد السوق الحر ومحاولات السياسيين خداع الجمهور بتحويل غضبهم إلى المهاجرين بدلاً من سياساتهم الاقتصادية الكارثية.