بقلم : محمد ياغي
في علم الحركات الاجتماعية كما في علم العلاقات الدولية لا يحدث التغير الذي تريده حركة اجتماعية ما أو دولة ما إذا كانت بنية الدولة أو النظام الدولي عصية على التغير.
في الدولة البوليسية التي يتحكم الأمن في كافة مناحي الحياة فيها لا يمكن لحركة اجتماعية تطالب بالإصلاح أن تنجح في تحقيقه.
اعتقال الناشطين السياسيين وتعذيبهم وربما قتلهم في الشوارع يجعل من التغيير مستحيلاً.
وإذا كان النظام قويا ومتماسكاً، فإن الناشطين حتى لو تمكنوا من تأليب الشارع على الدولة البوليسية وقيادة الناس باتجاه ثورة شاملة، فإن احتمال نجاح الثورة ضعيف لأن "النظام" يسحقها بجيشه وبأدواته البوليسية.
الدول في المقابل تدرك أن مصيرها في نظام دولي تسوده الفوضى متوقف إما على قوتها الذاتية أو على تحالفاتها الإقليمية والدولية.
الدول النووية أكثر قدرة على حماية سيادتها واستقلالها لأن قوتها النووية تمنع عنها الحرب الشاملة ويمكنها التعامل مع حرب محدودة إذا اقتضت الضرورة. لكنها أيضا تخشى الحصار الاقتصادي والسياسي الذي قد يضعفها ويؤلب شعبها عليها. لذلك توسع هذه الدول من دائرة تحالفاتها بشكل دائم لتعزيز أمنها وتطوير اقتصادها.
الدول غير النووية لا يوجد ما يكفي من الردع لديها. ومن أجل ضمان أمنها من أعدائها الفعليين والمحتملين تدخل هذه الدول في تحالفات مع دول قوية إقليميا وعالميا لتحمي نفسها وهي تتخلى خلال ذلك عن جزء من سيادتها وتحديدا استقلالية قرارها السياسي من أجل حماية نفسها.
التغيير وتحقيق الحركات الاجتماعية لبرامجها الإصلاحية أو تعزيز الدولة لسيادتها واستقلالية قرارها السياسي يعتمد في وضع كهذا على توفر الفرصة المناسبة.
الحركات الاجتماعية يمكنها أن تحدث تغيرا عندما تضعف الدولة البوليسية: عندما تنقسم النخبة الحاكمة على نفسها. عندما ينحاز الجيش أو أجزاء منه لمطالب الحركات الاجتماعية. عندما يحدث ظرف دولي يؤدي لإضعاف الدولة البوليسية. أو عندما يؤدي النشاط الدائم للحركة الاجتماعية إلى انقسامات في صفوف النظام.
لكن عندما يحدث ذلك، بمعنى عندما تتوفر الفرصة للتغير، إن لم تكن الحركات الاجتماعية جاهزة لالتقاطها فإن التغيير لا يحدث حتى لو كان النظام البوليسي بحاجة فقط إلى دفعة صغيرة ليسقط.
الحراك المستمر للحركات الاجتماعية بالتالي يساعد على خلق الفرصة للتغير لأنه يضعف النظام البوليسي. لكن وحده لا يكفي. جاهزية هذه الحركات لالتقاط الفرصة عندما تتوفر لها، شرط أساسي لحدوث التغير.
بالمثل، الدول التي تريد حماية استقلالها السياسي والخروج من التبعية التي تفرضها بنية النظام الدولي الحالي يمكنها القيام بذلك عندما تتوفر الفرصة لها.
هذه الفرصة قد تكون صراعا بين دول مؤثرة في العالم يسمح لدولة ثالثة تابعة من استغلاله لحسابها لتعزيز استقلالها السياسي.
الصراع مثلا بين الصين وروسيا من جهة والولايات المتحدة من جهة أخرى يوفر الفرصة لدول مثل الهند وإيران لتعزيز استقلالهما السياسي.
الصراع بين روسيا وأوروبا والولايات المتحدة من جهة أخرى يوفر الفرصة لتركيا لتعزيز استقلالها السياسي.
ضعف دولة مؤثرة في العالم أيضا يوفر الفرصة لدول أخرى لاستغلاله للدفع بمصالحها الاستراتيجية للأمام.
هنا يوجد تشابه أيضا مع الحركات الاجتماعية. الدولة التابعة لا يمكنها تعزيز استقلالها السياسي إن لم تكن جاهزة لاستغلال الفرصة المتاحة، إما لعجزها عن القيام بذلك أو لغياب الإرادة للقيام بذلك (الدول العربية جميعها تقع في هذا التصنيف) أو لأنها لم تنجح في ملاحظة الفرصة المتاحة.
اجتياح وباء (كوفيد - ١٩) للعالم يوفر فرصة تاريخية للدول الجاهزة للاستفادة منه، ليس فقط لتعزيز استقلالها السياسي ولكن للدفع بمصالحها الاستراتيجية للأمام.
الوباء أضعف الولايات المتحدة اقتصاديا وتحت قيادة رئيسها الحالي، خسرت إلى حد ما احترام أوروبا واستعدادها لمساعدتها للحفاظ على نفوذها الدولي.
أوروبا اليوم تريد أن تكون لها قوتها العسكرية الخاصة بها، وهي راغبة أكثر في بناء نظام دولي متعدد الأقطاب يكون لها فيه دور مؤثر بمعزل عن الاتفاق أو الاختلاف مع الولايات المتحدة.
لكن الأهم من أوروبا التي تُضعِف فرصها خلافاتها الداخلية، هي الصين التي أدركت أن اللحظة التاريخية توفر لها الفرصة لحسم مجموعة من القضايا التي تتعلق بمصالحها الوطنية، والتي كانت مؤجله لعدم توفر الظرف الدولي الملائم لحسمها.
الصين استغلت ضعف الولايات المتحدة لحسم مسألة هونغ كونغ التي كان يجب أن تستمر بالتمتع بنوع من الحكم الذاتي بموجب اتفاق إعادة سيادتها للصين من بريطانيا العام ١٩٩٧.
اتفاق الإعادة تضمن الإقرار بأن هونغ كونغ جزء لا يتجزأ من الصين لكنها ستحافظ على نظامها الخاص السياسي الذي كان معمولا به عندما كانت بريطانيا مستأجرة لها لمدة مائة عام. مبدأ "دولة واحدة بنظامين سياسيين" الذي قبلت به الصين سابقا، اليوم تقوم بإلغائه لتنهي عقدين من "السيادة الناقصة" على جزء من أرضها.
الصين أيضاً تتحرك الآن باتجاه ترسيخ سيادتها على أراضٍ متنازع عليها مع الهند في منطقة الهيمالايا.
الصراع العسكري الذي حدث في منتصف الشهر الماضي بين البلدين لم يكن الأول بالتأكيد، والبلدان كانا قد دخلا في حرب استمرت ما يقرب من الشهر العام ١٩٦١. قد لا تتمكن الصين من فرض سيادتها على كل المنطقة المتنازع عليها، لكن ضعف الولايات المتحدة وحاجة الهند الكبيرة لاستثمارات الصين فيها والتي تصل الى ١٥٠ بليون دولار يوفر للصين فرصه لتحقيق وترسيخ بعض المكاسب على الأرض.
أستراليا لم تنج من العقوبات الصينية عندما أيدت مواقف الرئيس ترامب بأن مصدر الفيروس هو الصين وان هنالك حاجة ملحة للتحقيق في ذلك. الأخيرة الغت اتفاقات تجارية مع أستراليا على استيراد لحوم البقر منها وفرضت تعرفة جمركية وصلت الى ٨٠٪ على وارداتها منها من الشعير. الصين هي الشريك التجاري الأكبر في العالم لاستراليا والعقوبات عليها في هذا الظرف الدولي تحديداً يجعلها أمام خيارين إما الحياد السياسي على الأقل في صراع الصين مع الولايات المتحدة بهدف الحفاظ على علاقاتها التجارية مع الصين أو قبول الركود الاقتصادي بمعاداة الصين.
هذه مجرد أمثلة فقط عن كيفية استغلال الدول للمتغيرات في بنية النظام الدولي لتعزيز استقلالها والدفع بمصالحها الوطنية للأمام.
التغيير صعب وهو مستحيل أحيانا بسبب بنية النظام الدولي التي تفرض "التبعية" و "الانحياز" لطرف على حساب طرف آخر من أجل ضمان سلامة الدولة من أعدائها الفعليين والمحتملين.
رغم ذلك المتغيرات في النظام الدولي توفر فرصا تجعل من تعزيز الاستقلال السياسي وحماية المصالح الوطنية للدولة أمراً ممكنا. لكن ذلك يحتاج إلى جاهزية لاستغلال الفرصة المتاحة ودونها تذهب الفرصة ولا يكون التغيير ممكنا إلى أن تتوفر فرصة أخرى.
ولأن المتغيرات في بنى النظام الدولي (وفي بنية الدولة) تأخذ وقتا طويلا، فإن توفر الفرصة أيضا يأخذ وقتا طويلاً وبالتالي فإن العجز عن التقاط الفرصة عندما تتوفر، هو كارثي لدولة تريد تعزيز استقلالها السياسي أو لحركة اجتماعية تريد إحداث إصلاح سياسي.