بقلم : نسيم الخوري
«كلّما أضعت جذورك فإنّك تنتهي بفقدان رجليك لأنّها تتبخّر في الفضاء». يسحبني فهم هذا المثل الإغريقي القديم للتفكير بالعقل الفلسفي اليوناني الذي اجتهد كثيراً في قضايا الوجود والموجود والخالق والمخلوق والأسئلة الفلسفيّة الكبرى من التكوين والولادة والموت. لربّما جاء هذا الشعار وليد أو حصيلة الخوف الوطني أو القومي اليوناني الذي استغرق متأرجحاً بين الأرض والسماء، ومن المعروف أنّه فكرٌ بلغ العالميّة أو العولمة الأولى وما زال منتشراً. كيف؟ لنعترف جميعاً، بأنّ سقراط وأرسطو وافلاطون وغيرهم، يستشهد بهم معظم أساتذة الجامعات في محاضراتهم في الجامعات العالميّة حتّى اليوم، مع أنهم فلاسفة ولدوا قبل المسيح.
يمكنني أن أسحب هذا الشعار، اليوم، على دول العالم كبيرةً أو صغيرة في عصر العولمة الثانية، خصوصاً في القرن الواحد والعشرين، إذ باتت الدول والشعوب تعمل جاهدةً في فضاءات الأمكنة والأزمنة كلّها، وكأنّها تفقد جذورها فعلاً أو أنّ قوائمها باتت تتأرجح في الفضاءات أو اللامكان. هذا الأمر ينطبق على أميركا وأيضاً على الصين وبلدان أوروبا وبريطانيا وربّما العالم كلّه.وهنا سؤال جدير بأن نفكّر به معاً:لم نفهم الأسباب التي دفعت رئيساً لأميركا مثل دونالد ترامب عندما أطلق شعاره الشهير: «أميركا أوّلاً». راح الرجل بعدها، ينقّب في الموازنات الأميركية فيزيح عن ظهر دولته العظمى وما زال، معظم الأعباء والالتزامات المالية الدوليّة، وذلك بتسطير قرارات لم تنته بعد، بالأسود والأبيض ومذيّلة بتوقيعه، إذ يرفعها أمام عيون العالم في البيت الأبيض. لم يفسّر لنا أحد خلفيات هذا الشعار بمضمونها القومي الأقرب الذي قد يجعلني أفكّر شخصيّاً في عودة أميركا بعد أزماتها أو نكوصها إلى الجذور. لكن عن أيّ جذور أكتب، والأرض الأميركية قارة شاسعة متنوعة بالأجناس والناس والثقافات؟
لربّما ضاقت أميركا بمناخ المزاحمة أو العظمة الدولية وشقع الضغوطات والديون على العالم الذي يكرهها، فراحت تبحث عن ضبضبة حدودها الفعلية وترفع حتّى الجدران الهائلة مع جارتها الأقرب أعني المكسيك. يأخذني التفكير، بالمناسبة هنا اعتراضيّاً مع حلول مئوية إعلان لبنان الكبير، على إيقاعات المظاهرات العنيفة والحرائق التي تعصف بلبنان هذا الوطن المتوسطي الجميل، للإشارة أو الإشادة بشعار «لبنان أوّلاً» الذي رفعه قادة الطائفة السنيّة في لبنان قبل سنوات وقبل ترامب بكثير، ولهذا منحى آخر، مع التنبيه أنّ الرئيس الأميركي لم يكن ليقلدنا بالطبع، إلاّ إذا شاء بعض الزعماء في لبنان ذلك. المسألة ببساطة عودة إلى الحدود والجذور بمعانيها الأقلّ اتّساعاً وتشعّباً. أن تنطلق من نقطة محددة أفضل من الانطلاق من الأمكنة كلّها.
أكتب هذا رافعاً قبّعة الحبر لجرثومة الكورونا وهي تعيدنا جميعاً إلى التعرّف على جذورنا وعائلاتنا وجبالنا وأحفادنا وكياناتنا المتواضعة الصغيرة . تعيد كل بلد إلى حدوده وكلّ فردٍ إلى جحره ليصبح جلدنا هو حدودنا اليوم داخل العائلة الواحدة، لكنّ الأعباء الاقتصادية والمالية والنقدية والأزمات الكبرى هي التي ضاعفت الانكماشية في النظر إلى السلطات الدولية وقد ظهرت «الشعبوية» داخل كلّ دولة مصطلحاً سياسيّاً جديداً قد يحمل مذمّة وضيقاً وصفات سلبية تلصق بزعماء العالم، كما بمعظم الأنظمة الأرضيّة التي لم تكن تعرف حدودها، باعتبار أنّ الشعبوية برزت وكأنّها انكفاء إلى السلطة/ التسلّط في الداخل، وكبديل عن تقلّص أو تعثّر التظلّع إلى العظمة الدولية.
كان لا يمكن أن تستمرّ الدول الكبرى في تنافسها بتقديم تواريخها الخاصّة وهي تخطو خطواتها الهائمة المترجرجة في القرن الواحد والعشرين، وكان لا يمكنها أيضاً، بسبب مقتضيات العولمة وتشابكاتها المعقّدة وعالمية العلاقات العامّة بين الشركات العابرة للقارات والصناعات العالمية، الاستمرار من النظر إلى العالم وكأنّه ما زال واقفاً أمام أبواب الـ 1914 أعني الحرب العالمية الأولى أو الثانية. لم يعد لقادة الحروب القديمة ولا لانتصارات الدول الكثيرة أي معنى لشبابها وشاباتها. ماذا يعني الإمبراطور شارلمان اليوم، أبو اللحية الزاهرة وأب أوروبا الغربيّة الذي أعاد بناء الإمبراطورية الرومانية بمساعدة بابا رومية في القرن الرابع؟ صدّقوني هو لا يعني شيئاً بالنسبة للشباب أو الشابّات الفرنسيات في كتب التاريخ وحتّى في الذاكرة المحفوظة. كاد زميل جامعي صديقي يتشاجر مع أساتذة فرنسيين إذ راح يمدح نابليون بونابرت وأمجاده.
لقد تغيّرت عقليات الأجيال الجديدة ونظراتهم ومفاهيمهم كثيراً، وصار التاريخ الأكثر أهميّة وجذباً بالنسبة إليهم هو الدخول ببساطةٍ وتواضع كلّي إلى دولهم ودول غيرهم لا من تماثيلها أو أبوابها الذهبية المحفورة بالانتصارات، وصور المارشالات التي تتكدّس في المتاحف يرتادها السوّاح ويتناولها طلاب المدارس بالتأفّف والوشوشات الساخرة التحقيرية في ما بينهم. هناك ثقافة تدفعهم إلى دواخلهم من دون أبّهة وعظمة، كما تجذبهم للدخول من أبواب التلاقح والتعرّف على الدول الكثيرة والاهتمام بثقافاتها وتواريخها وطقوسها ومشاكلها لا بأمجادها ومعاركها الحربيّة.
يحوّل هذا المناخ العام، استراتيجيات الدول نحو الانكماش، في ضوء الاهتزازات الكبرى المحفوفة بالكثير من الشرارات التي تختلف نتائجها باختلاف البلدان، وكأنّها قواسم مشتركة تجعلها كلّها مشغولةً بحلّ أزماتها التي تقلّص من تطلعاتها الكونية. منذ أزمة اليونان الاقتصادية المالية مع نهاية الـ 2009، مروراً بقيام الحركة المعترضة في أيلول 2011 باحتلال «بارك زيكوتي» في نيويورك ضد جشع 1% من الأثرياء مقابل باقي الشعب الفقير، واحتلال «الوول ستريت»، بانت شرارة الرفض من هناك وسرعان ما انتشرت وصولاً إلى نيجيريا وإيسلندا وفانكوفر وملبورن وبوسطن، واستمرّ انفراط سبحة الأزمات طيلة هذا العقد المثقل بالأزمات الجاذبة من 2010 المستمر في الـ 2020 وأبطاله الملايين من الشابات والشباب الرافضين لواقعهم أيضاً في اسبانيا وبلجيكا والبرتغال وسلوفانيا وإيرلندا وليتوانيا ولبنان وغيرها. وقد يكون مؤلماً تفكير بعض القادة الدوليين بإيجابيات «الكورونا» الذي يقضي على كبار السن والكهول الذين باتوا يشكلون أعباءً اقتصادية يتمّ تداولها بوقاحة دوليّة اليوم، لإخلاء الساحات لأجيال الصغار.ستنفرط سبحة العولمة أكثر في كلّ مكان، وستحتلّ قضايا الرواتب وأجور المتقاعدين والبطالة وعدم المساواة والأزمات المعيشية، وحتّى أقساط الجامعات، بعداً كونيّاً لطالما كانت ترمى المسؤوليات عن الانهيارات وما زالت على أشخاص ومؤسّسات متبخّرة مفلسة لكنها غير موجودة.