بقلم: على شندب
في اليوم التالي لمشاركتي بندوة نظمتها وزارة الخارجية الليبية بتاريخ 15/5/2019 في مدينة بنغازي حول "مواجهة الإرهاب ودور الإعلام"، وردني من صديق مشترك مع اللواء ونيس أبو خماده، تنويه وتقدير اللواء أبو خماده عمّا ورد في مداخلتي التي سمع ملخصا عنها من أحد الضباط الحضور. وقد أبلغني الصديق أن أبو خماده توقف بانتباه خصوصا عند نقطة الوحدة الوطنية الليبية، ودعوتي الليبيين إلى "المصالحة لبناء ليبيا الجديدة، بدون أعلام مسبقة، وبدون رايات مسبقة وأيضا بدون أناشيد مسبقة".كما أبلغني الصديق المشترك إعجاب أبو خماده بأهمية المقاربة والمقارنة التي أوردتها حيال العلاقات الليبية المصرية وفيها "ليبيا على خطى مصر التي تتأثر جوهريا بليبيا وتؤثر فيها. فعندما كانت مصر ملكية، كانت ليبيا ملكية، وعندما حصلت ثورة 23 يوليو بقيادة عبد الناصر، تفجرت ثورة الفاتح بقيادة معمر القذافي. وعندما هبّت رياح الربيع المسموم ووصل الإخوان إلى حكم مصر، هبّت ذات الرياح على ليبيا عام 2011 ووصل الإخوان إلى السلطة لكنهم فشلوا فشلا ذريعا، وتحولت "17 فبراير" بفعل نهر الدم إلى "برناير" تحت سيطرة ميليشيات عاثت في البلاد قتلا وخرابا وتشريدا. وعندما نهض الجيش المصري بقيادة عبدالفتاح السيسي لوضع حد لعبث الإخوان، نهضت بقايا الجيش العربي الليبي بقيادة خليفة حفتر وتصدت لذات العبث ونفس الإرهاب".
يومها، توقفت مليا أمام تنويه أبو خماده بمداخلتي وتقديره لها، وحاولت معرفة وفهم المقاصد العميقة للرجل فلم أوفق. لكن رأيي استقرّ على وضع هذه المقاصد في سياق قبول الطرح الذي عرضته في تلك الندوة في ظل التطورات الميدانية المتسارعة التي شهدتها ليبيا طوال سنة وبضعة أشهر، تخلّلها تمركز الجيش الليبي على مداخل طرابلس وتطويقه لها تطويق السوار للمعصم بهدف تحريرها من ميليشيات فبراير الإخوانية.لكن تدخل تركيا بترسانتها البحرية والجوية وميليشيات مرتزقتها من سوريين وغيرهم (حيث أثبتت تطورات ليبيا وأذربيجان وأرمينيا أنهم مجرد بندقية للإيجار) قضى بانسحاب الجيش الليبي من قاعدة الوطية وطرابلس وترهونة باتجاه مدينتي سرت والجفرة اللتين باتتا خط التماس المحلي والإقليمي والدولي، الذي حوّله الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي إلى خط أحمر بوجه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي أُوقف عند حده، وتوقف زحفه المزدوج باتجاه مدن الهلال النفطي ومناجم صحراء ليبيا وبوابة شمال أفريقيا.
وبعدها فتح المشهد الليبي على عدة مسارات حوار عسكرية وسياسية ودستورية تمتد بين القاهرة والغردقة وبوزنيقة وجنيف وأخيرا غدامس وقريبا تونس. مسارات قد تفضي لإنتاج تسوية سياسية تضع حدا لتقويض الدولة الليبية ولهدر دماء الليبيين وثرواتهم، الأمر الذي أغضب أردوغان تركيا.مرت الأيام، وطوى أوراق الندوة النسيان بفعل التطورات التي أعقبتها، لكن تلك الوفاة الحيّة منذ أيام لآمر قوات الصاعقة اللواء ونيس أبو خماده خلال افتتاحه "المدرسة النموذجية" كمدرسة للمستقبل قرب وادي القطارة بمنطقة بنينا مسحة حزن لفّت مدينة بنغازي وغالبية المدن الليبية على الرجل الذي ترك بصماته الدامغة خصوصا في سياق الحرب على الإرهاب وتطهير بنغازي وبعدها مدينة درنة وغيرهما من ميليشيات فبراير الإخوانية إياها، أعاد بعث مقاصد امتداح أبو خماده لمداخلتي المذكورة. وشكلت الراية البيضاء التي سُجي بها جثمان الراحل أثناء مراسم الصلاة عليه لتشييعه، رأس خيط تلك المقاصد.
إنها الراية البيضاء التي تعكس الوئام والمحبة والسلام، والمتوافقة مع ما قصدته عن ليبيا الجديدة بدون رايات وأعلام وأناشيد مسبقة. وهي "الراية البيضاء" التي علمت أن أبو خماده أوصى أهله ورفاق السلاح أن يسجّى ويدفن بها وليس بعلم الاستقلال الذي استعادته فبراير مع أساطيل الناتو عام 2011 والذي يعتبر علم ليبيا الرسمي المختلف حوله.وهي الراية البيضاء متوسطة صورة "عمر المختار" التي سبق وطلب أبو زيد دوردة آخر رئيس مخابرات في "الجماهيرية الليبية" من المشير خليفة حفتر والمستشار عقيلة صالح اعتمادها رسميا، لكونها الراية الوحيدة التي يتوحّد الليبيون في كنفها. لكن ما الذي دفع ونيس أبو خمادة إلى التوصية بدفنه ملفوفا بالراية البيضاء؟
تفيد العودة إلى سياق الحرب الناتوية على نظام الراحل معمر القذافي، أن الضربة العسكرية الاعتبارية الأقسى التي تلقاها القذافي كانت من آمر قوات الصاعقة ووزير الداخلية اللواء عبدالفتاح يونس، الذي كانت أهميته على مدى 42 عاما لا تكمن في المناصب الحسّاسة التي تبوأها الرجل، إنما تكمن بكون عبدالفتاح يونس أحد أوتاد خيمة القذافي. وبالتالي فقد شكل انشقاق قوات الصاعقة بقيادة عبدالفتاح يونس ضربة مؤلمة للقذافي قبل نظامه.
وهنا علينا التوقف مليا أمام كلام أبو خماده أو "أسد الصاعقة" الذي كان أحد تلامذة يونس النجباء بأنه "لو لم تخرج الصاعقة على القذافي لبقي حتى اليوم".لكن الاغتيال المعلوم المجهول لعبدالفتاح يونس ممن كان يظنهم أبو خماده وغيره ثوارا، فعل فعله في نفسية وشخصية الرجل كما وفي نفسية وشخصية غالبية الضباط الذين شاركوا أبو خماده في الانشقاق على نظام القذافي. وهو ما سبق لأبو خماده أن عبّر عنه بالقول لولا الناتو لما سقطت طرابلس ولما سقطت سرت.. ولا يستطيع هؤلاء الثوار فعل أي شيء. إنها حقائق مرة أطلقها أبو خماده في خطابات متلفزة موثقة ومحفوظة في سحابيات "يوتيوب".كما إن أبو خماده وغيره من الضباط الذين خرجوا على القذافي، والذين طالت الاغتيالات والتصفيات عددا كبيرا منهم، حتى وجدوا أنفسهم أمام حرب وجود مع ذات الجماعات والمجموعات المتطرفة التي لطالما كافحها القذّافي، وكان أبو خماده نفسه أحد أدوات القذافي لمكافحة مجموعات المتطرفين والإرهابيين أو "الزنادقة" كما كان يسميهم نظام القذافي. ولهذا يحفظ أهالي بنغازي ودرنه وسبها جنوب ليبيا، لأبو خماده وجنود الصاعقة تحريرهم من هيمنة المتطرفين وحمايتهم من إرعاب الإرهابيين.
سيرة الرجل العسكرية بدون شك حافلة بالمناقبية والأوسمة التي سبق وتقلدها من قائده الأعلى معمر القذافي قبل أن يخرج عليه ذات 17 فبراير. لكن بحر الدم الذي سبحت وتسبح فيه ليبيا منذ اندلاع لهيب الربيع المسموم، فعلت فعلها في أبو خماده وغيره من ضباط الجيش الليبي. حتى أن خليفة حفتر عندما أدى القسم أمام البرلمان الليبي لمناسبة ترفيعه وتعيينه قائدا عاما للجيش الليبي نحى جانبا قسم 17 فبراير المعتمد، وأخرج نص القسم العسكري المعتمد زمن ثورة الفاتح من سبتمبر مؤديا اليمين بموجبه.عام 2014 خلال قيادته المنطقة الجنوبية، وضبطه الوضع الأمني فيها وإيقاف الاشتباكات الدامية بين "التبو" وقبيلة أولاد سليمان، اكتشف اللواء أبو خماده من خلال تكليف "المؤتمر الوطني" حاكم عسكري لمدن غدامس، غات، الكفرة جنوبي ليبيا وصولا إلى مساعد حيث الحدود مع مصر، أن هناك برنامجا خطيرا يسعى لتخريب ليبيا منذ ذلك الوقت.إنه البرنامج الخطير الذي تعرض أبو خماده في سياق مواجهته وإجهاضه لعدة عمليات اغتيال معروفة من قبل الجماعات الإرهابية التي استهدفت أيضا والدته وشقيقته بمحاولة الاغتيال. كما واختطاف ابنه علي بهدف الضغط عليه، لكن أبو خماده رفض الخضوع لمطالب الخاطفين وقال "إن خطف ابني لن يجعلني أستسلم، وأنا مؤمن بالقضاء والقدر، وما ابني إلا واحد في سلسلة من المخطوفين". لكن فدية دفعتها احدى الجهات للخاطفين حرّرت ابنه.
جلجلة ليبيا الكبيرة، ونهر الدم المتدفق بلا سقوف، وتحول ليبيا إلى ساحة مستباحة من الإرهاب المدعوم من قطر وتركيا، إضافة لشراهة القوى الإقليمية والدولية في ابتلاع ونهب ثروات ليبيا، واتضاح خطوط المؤامرة السوداء أمام أبو خماده كلها عوامل دفعته للقول مرارا أمام بعض الضباط والأصدقاء بأنه "لو كان يعلم أنها مؤامرة، وليست ثورة، لما خرج فيها".ورغم ان أبو خماده سبق وعبّر عن "عدم ندمه من المشاركة في 17 فبراير" لكنه بعد ذلك قال: "لا، نحن نريد ليبيا"، إلا أن رموزا وشرائح قذّافية نعوا أبو خماده وحزنوا عليه. سيما وأن هناك من يحفظ له مقولته التي كثر تردادها بعد وفاته "يكفيني شرفا أنه يوم 19/ 3/2011 لم أقاتل تحت الناتو، وعدت إلى المنزل وتعرضت للحبس بتهمة الخيانة".ممّا تقدم يتضح أن أبو خماده استمر حتى اللحظة الأخيرة في محاولة التوفيق بين انشقاقه على النظام السابق وبين عدم الانخراط في القتال لجانب الناتو. فعلم الثورات يقول إن "شرط الثورة وطنيتها"، وهذا ما لم يتوفر بثورة مرشدها الأعلى برنار ليفي.
ولعل آخر ما ذخرت به أيام أبو خماده المعروف ببساطته، تماما كأهل الصحراء بواحاتها المتربعة على كثبان الرمل وقد لفحت بشرتهم حرارة الشمس اللاهبة، توقه إلى تمضية بقية العمر مع مسبحة وسجادة صلاة في رحاب مكة حتى يلاقي وجه ربه. فابن قبيلة "المغاربة" التي تعتبر مدينة أجدابيا معقلها التاريخي، وينتشر بعضها بمدينة سبها جنوب ليبيا، فيما أهل أبو خماده قصدوا منذ أربعينيات القرن الماضي مدينة "مرزق" في أعالي الصحراء، وكان عبدالكريم والد أبو خماده شخصية لها مكانتها الاعتبارية في مرزق ليس لأنه مسؤول في الشرطة، وإنما لأنه كان أيضا مؤذن وإمام المسجد في مرزق التي كانت تضم بعض الزوايا الصوفية والنقشبندية منها خاصة، وهي الزوايا التي تربى ونما فيها اللواء أبو خماده، حيث طبعت الصوفية زهده وبعده عن زخارف الحياة ومباهجها، وتميزه بالبساطة التي جعلته منصرفا إلى العسكرية بمعناها الاحترافي بعيدا عن ألاعيب السياسة ودهاليزها.إنها الصوفية نفسها التي كان يلوذ بها معمر القذافي كطريقة للتفكر والتأمل والتعبد والصفاء الروحي. وقد انصرف القذافي في سنواته الأخيرة إلى احياء أعياد المولد النبوي الشريف في عدة مدن عربية وافريقية مثل تمبكتو، أغاديز، تشاد، كامبالا ونواكشوط وسط حشود كبيرة من مشايخ الصوفية وعلمائها حول العالم.وربما الصوفية مع الراية البيضاء بعض من القاسم المشترك بين القذافي وأبو خماده، مع فارق جوهري كبير أن أهل القذافي وأنصاره ما زالوا مصرين على الكشف عن مكان قبره المجهول بهدف دفنه وتشييعه تضميدا لجراح ليبيا الغائرة.
قد يهمك ايضا