هل يكفي أن تعتبر بكركي نفسها مرجعية لكل اللبنانيين، أم أن الأهم أن يقتنع كل اللبنانيين أنها مرجعيتهم.
إستوجب طرح هذا السؤال الخطاب الأخير لغبطة البطريرك الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي، والذي حمل عناوين وطنية وأخرى سياسية خلافية بين بعض المكونات اللبنانية وفي مقدمها "مسيحيو بكركي" إذا صح التعبير من جهة، وشيعة "حزب الله" والمقاومة من جهة أخرى.
والعناوين الخلافية قديمة قِدَم فكرة إنشاء الكيان اللبناني، ولعل مقولة الأديب والسياسي كاظم الصلح التي أطلقها في العام 1936 "النصف والنصف الآخر"، وكان يعني أنه لا يمكن إجبار نصف اللبنانيين على الإنضمام الى دولة الوحدة العربية، ولا يمكن أيضاً إجبار النصف الآخر على القبول بدولة "لبنانية" بحماية فرنسا، تختصر فكرة قيام هذا الكيان على أعمدة إنقسامية هشة سرعان ما تتداعى عند تعرضها لأي هزات داخلية أو خارجية.
وقد أثبتت المراحل التاريخية التي مر بها لبنان أن ساسته من المسؤولين الزمنيين والروحيين ما زالوا يتعاطون مع كيانهم، الذي من المفترض أنه صار "وطناً نهائياً لجميع أبنائه" وفق ورقة العمل الشيعية التي أطلقها الإمام موسى الصدر العام1977، وهو التوصيف نفسه الذي وضع في مقدمة الدستور اللبناني، يتعاطون معه على أنه نصفان وربما أكثر ولكل من هذه الأنصاف أو الأجزاء إمتداده الخارجي.
اليوم تتكرر المعضلة بحيث يبدو أننا أمام امتحان وطني جديد حول الهوية والإنتماء والدور والخيارات، ويترافق ذلك مع حملات تخوين متبادلة تضع الكيان واللبنانيين جميعاً معه في مواجهة مخاطر إضمحلال الهوية ووهن الإنتماء وانتفاء الدور وسقوط الخيارات كافة.
الكل يعلم أن اللبنانيين لم يتمكنوا حتى الآن من صياغة تاريخ موحد لكنهم ملزمون بالإقتناع بأن لديهم جغرافيا واحدة تجمعهم، وهي وطنهم لبنان الذي من دونه لا معنى لكل تجمعاتهم الطائفية وأحزابهم الإقطاعية والمناطقية، كما لا جدوى من "إستقتال" أي منهم للإمساك بقرار هذا الوطن لوحده، أو ادعاء القدرة على قيادته أو إدارته أو أخذه الى حيث يريد.
وهل يستوي كل هذا "الإستقتال" السياسي الطائفي حول الأسئلة الكيانية والوجودية مع واقع أن البلد ومعه جميع مواطنيه يندفع إرادياً نحو السقوط الاقتصادي والمالي والإجتماعي والأخلاقي، نتيجة تغلغل منظومة فساد وزبائنية طائفية سياسية في جسد الدولة على مدى عقود ثلاثة.
لا أتحدث هنا عن حق كل طرف لبناني ديني أو سياسي في التعبير عن موقفه وخياراته الوطنية، إنما من حق المواطنين اللبنانيين كافة أن يطالبوا الطرفين المعنيين بالصراع والحوار أي بكركي و"حزب الله" أن يعيدا ترتيب سلم أولويات صراعهما هذا وحوارهما، بما تفرضه الوقائع المؤلمة التي تطال اليوم كرامة النسبة الغالبة من اللبنانيين وعزة نفسهم وحقهم بعيش كريم محترم.
ولذلك يريد معظم اللبنانيين من هذين الطرفين المقبلين على التواصل والحوار أن يضعا الأسس للبحث في الحلول الممكنة لإخراج الوطن وأهله من الأزمات الخطيرة التي يعيشونها، وليس الإكتفاء باستعراض عمل لجنتهم المشتركة التي تلتقي غب الطلب، ولا استنفاد كل تعابير المجاملات التقليدية والإبتسامات التي ستعكسها صور الإعلام.
والأهم ألا يكون الحوار من أجل الحوار فقط، بل العمل على تعزيز الثقة الوطنية المتبادلة بوحدة المصير في وجه كل التحديات الخارجية أياً كان مصدرها، كذلك ترسيخ القناعة المشتركة بأن قيامة لبنان مستحيلة في ظل الإنقسامات الطائفية التي تؤدي الى الإنعزال الجبري، كما في حال إستمرار الإصطفافات السياسية الحادة حول "تناتش" ما تبقى من مقدرات الدولة.
كل ذلك لا يمكن أن يحصل من دون فَهمِ الآخر، فَهم هواجسه، والأهم فَهم منطلقاته التي على أساسها يحدد هو دوره الوطني ووظيفته السياسية.
لن أرجع بعيداً لاستعادة تاريخ علاقة اللبنانيين الشيعة مع مشروع الكيان خلال محطات نشوئه كافة، هذه العلاقة التي كانت ملتبسة نتيجة استبعادهم عن المشاركة الفعلية في تلك المحطات وبالأخص حين تم تركيب ما سُمي "صيغة الـ43"، والتي أوجدت عندهم إحساساً عميقاً بـ"الدونية السياسية" التي ترافقت مع حرمان إجتماعي وإقتصادي، مما أجبرهم على البحث عن مخارج تُمكِنُهم من مجاراة الرفاه الاقتصادي والمالي الذي كانت تنعم به بعض المناطق والشرائح اللبنانية الأخرى. فكانت الهجرة الى أفريقيا لمواجهة شظف الحرمان، وكان الإنتساب الى بعض تنظيمات "الحركة الوطنية" والمقاومة الفلسطينية لصد الإعتداءات الإسرائيلية الدائمة والمتكررة على بيوتهم وقراهم، خصوصاً في فترة الستينات التي يتحدث عنها دائماً غبطة البطريرك الراعي باعتبارها سنوات البحبوحة نتيجة إلتزام لبنان مبدأ "الحياد". هذا الحياد المزعوم آنذاك كان معاناة مميتة على الشيعة والجنوبيين منهم بشكل خاص، لأنه تحول الى إهمال رسمي مدروس من قبل الدولة، إضافة الى تخلٍّ مبرمج عن واجب هذه الدولة الدفاع عن أرضها وشعبها على الحدود الجنوبية في وجه ممارسات ومطامع العدو الإسرائيلي.
وفي تاريخنا الحديث، أي مرحلة ما بعد إقرار وثيقة الوفاق الوطني في "الطائف"، لم يكن الشيعة شركاء أساسيين في رعاية صياغتها على المستويين الإقليمي والدولي. بل كان الأمر يقتصر على ثلاثية أميركية - سعودية - سورية، ألزم بها الشيعة باعتبارها مخرجاً وحيداً مفروضاً من هؤلاء الرعاة لإنهاء الحرب الأهلية والإنتقال الى مسيرة إصلاحية جذرية في بنية النظام السياسي المهترئ.
المؤسف أن الكثير من المسؤولين المسيحيين زمنيين وروحيين يحملون المسؤولية بشكل دائم لسوريا، مستبعدين بشكل مقصود أي مسؤولية خليجية عن الغبن الفعلي الذي لحق بهم بسبب تشكيل منظومة "الحريرية السياسية" التي أوجدها الرئيس المرحوم رفيق الحريري، ولم يكن الرئيس نبيه بري ممثل الشيعة في السلطة سوى إحدى ركائزها الى جانب ممثل الحيثية الدرزية وليد جنبلاط. هذه المنظومة التي كان وما زال "مسيحيوها" ملحقين وليسوا شركاء، والتي كادت أن تنجح في إخراج المسيحيين من البنيان الاقتصادي للبنان بعدما أضعفتهم سياسياً وإدارياً.
هذا إذا تجاوزنا المسؤولية الأميركية عن إهمال متابعة تنفيذ الشق الإصلاحي من إتفاق الطائف، هذا الاتفاق الذي كان من المفترض أن يرسم حدود التوازن والشراكة في السلطة السياسية كما في صياغة الخيارات الوطنية الداخلية والخارجية.
حل أزمة المسيحيين يا غبطة البطريرك ليس عند الشيعة، أما أزمة لبنان فحلها مسؤولية مشتركة. تبدأ من حصر أجندة الاجتماع المقبل بين فريقكم وفريق "حزب الله" بأمرين: الأول، البحث في إنقاذ لبنان من براثن منظومة الفساد التي دمرت واقعه ومستقبل أجياله وأحلامهم، والذهاب باتجاه إستعادة سلطة الدولة والقانون بعد تنفيذ الإصلاحات الواضحة والجلية في وثيقة الوفاق الوطني، والتي قد تجعل من المؤتمر الدولي المطروح عامل مساعدة لورشة النهوض المفترضة. والثاني، الشروع في تحويل المطالبات بإقرار "إستراتيجية دفاع وطني" الى وقائع، وذلك من خلال فتح النقاش الهادئ والرصين حول أهمية هذه الإستراتيجية لتطمين شركاء الداخل في ما يعني سلاح المقاومة ودوره ومرجعيته، إنما أيضاً من منطلقات وطنية بحتة تزيل الشكوك من أمامنا كمقاومين حول إمكانية إستفادة أعداء لبنان كافة، وفي مقدمهم العدو الإسرائيلي والإرهاب التكفيري، جراء تبني فكرة "الحياد الناشط"، كما تعبرون غبطتكم.