لطالما وضعت «الجغرافيا السياسية» طرابلس ومنطقة الشمال على خط النزاعات الإقليمية من جهة والتجاذبات المحلية من جهة أخرى، وسط واقع اقتصادي واجتماعي مُهترئ يُشرّع الأبواب امام كل استثمار سياسي.
الفقر المدقع الآخذ في التمَدّد، الاهمال الرسمي المستفحِل الذي يتخذ شكل العقوبة الجماعية لمئات آلاف المواطنين، عدم اكتراث معظم الزعامات والمرجعيات السياسية التي باتت مُنفصلة عن محيطها... كلها عوامل دفعت أخيراً الكثير من سكان طرابلس والشمال المُحبطين الى محاولة الهروب من «السجن الكبير» عبر قوارب الهجرة غير الشرعية، والمحفوفة بالمخاطر التي دفع ثمنها غالياً البعض مِمّن غَلبه البحر في مواجهةٍ غير متكافئة.
لكنّ تداعيات «الفراغ المتفاقم» في الشمال لا تقتصر على اليأس الجماعي الذي يَتمظهَر بأشكال عدة، بل انّ هناك، خارج الحدود، مَن كان، ولا يزال، يحاول أن يملأ هذا الفراغ عبر أدوار إنسانية، لا تخلو من البطانة السياسية.
وضمن هذا السباق، تلقّى مرجع سياسي قبل أيام تقريراً يفيد بأنّ الحضور التركي في طرابلس والشمال آخذ في الاتّساع بوتيرة مكثفة، وبأشكال عدة، مستفيداً من خلو الساحة أمامه، بفِعل الاستقالة الكاملة للدولة ومعظم القيادات المعنية من مسؤولياتها وواجباتها، وهو الأمر الذي أوجَد خواء يمكن لأيّ «عابر سبيل» او «عابر للحدود» ان يبادر الى تعبئته.
وقد أتى الانهيار الاقتصادي والمالي الذي كان تأثيره على طرابلس والشمال أشد وطأة وإيلاماً، ليسهّل «التَسرّب» التركي إلى عمق تلك المنطقة المشطوبة من حسابات الدولة اللبنانية وأولوياتها، لا سيما انّ المواطنين المسحوقين سيتجاوبون تلقائياً وفطرياً مع أي مساعدة يمكن أن تُمنح لهم، بمعزل عن أي أبعاد قد تختزنها.
ووفق التقرير الذي وصلَ الى المرجع السياسي، فإنّ النفوذ التركي هو الاقوى حالياً على الساحة الشمالية، «وجمهور اسطنبول في طرابلس والجوار يكاد يصبح أكثر عدداً وتأثيراً من جماهير معظم القوى والزعامات التي لطالما كانت تتنافس على استقطاب الفقراء لتوظيفهم في خدمة مشاريعها السياسية في مقابل بعض الفتات».
َوتبعاً لتقديرات التقرير، بات بإمكان اسطنبول أن تنظّم تظاهرة من 40 او 50 ألف شخص، اذا أرادت. والأرجح انّ الانتخابات النيابية المقبلة ستفرز نواباً شماليين أصدقاء لتركيا ومدعومين من قبلها.
ويشير فحوى التقرير الى انّ الأتراك يعتمدون في تَغلغلهم المدروس على ضَخ كميات كبيرة من المساعدات في أحياء شديدة البؤس والعوز. كذلك، تستند اسطنبول في انتشارها المتدرّج الى صِلات وثيقة نسَجَتها مع عدد من الشخصيات والمجموعات الناشطة في المجتمع الأهلي، إضافة إلى التعاون مع بعض الحلفاء السياسيين لها.
ومن الواضح أنّ «تيار المستقبل» هو من بين الجهات الأكثر تضرراً من إعادة «الضَم والفرز» التي تحصل على مستوى المعادلات الشمالية، خصوصاً انّ إمكانياته لم تعد تسمح له بالمنافسة.
امّا الوظائف الحيوية لـ»الدفرسوار» التركي فهي متنوعة، وفق المطّلعين، بدءاً من «مطاردة» الدور الفرنسي الذي تَضخّم أخيراً في لبنان، والسعي الى إحداث نوع من «توازن الردع» معه على وَقع تصاعد التجاذب بين أنقرة وباريس في المتوسط، وصولاً الى محاولة الاستحواذ على بيئة كانت تغطّيها تاريخياً العباءة السعودية وتُصنف تقليديّاً ضمن مناطق التأثير السعودي.
كرامي والأتراك
في المقابل، ماذا يقول لـ»الجمهورية» النائب فيصل كرامي، الذي بادر اخيراً الى مَد الجسور قي اتجاه تركيا وتَفعيل التواصل معها من خلال زيارته، للمرة الأولى، الى أنقرة واسطنبول قبل أيام حيث التقى عدداً من المسؤولين ورؤساء مؤسسات مختصة بشؤون التعليم والتنمية؟
لا يجد كرامي أيّ حرج في الدفاع عن علاقته الجديدة مع الأتراك، لافتاً الى انه مستعد للذهاب حتى آخر الدنيا من أجل مساعدة أبناء مدينته الذين سُدّت كل السبل أمامهم نتيجة ما يعانونه من غبن الدولة وتَهميشها لهم منذ عشرات السنين.
ويتساءل: أين العيب في أن نحاول الحصول على دعم ومساعدات لأهالي طرابلس والشمال المتروكين لمصيرهم؟
َويضيف: عندما وقع الانفجار المأساوي في مرفأ بيروت أمطرَت المساعدات من كل حدب وصوب على المتضررين من سكان العاصمة، وهي حَق لهم وحَلال عليهم، ولكن ماذا عن أهلنا المحرومين والمتضررين من سياسات الدولة منذ عقود؟ هل أتركهم وأنا المنتخَب من قبلهم لتأمين حقوقهم والدفاع عنها؟
َويؤكد كرامي انّ لقاءاته خلال زيارته الى تركيا تركزت على الشق الإنساني والصحي والاجتماعي، متسائلاً: ما المانع دون قبول المساعدات التركية اذا كانت غير مقيّدة بأي شرط سياسي ولا تؤثر على ثوابتي وقناعاتي وفي طليعتها دعم المقاومة والعداء لإسرائيل؟
ويَلفت الى انّ علاقات ممتازة تربط بين بيروت وأنقرة، «ومن المعروف انّ اللبنانيين يزورون تركيا من دون فيزا. وبالتالي، فإنّ تواصلي مع الأتراك يندرج تحت هذا السقف». ويشدّد كرامي على انه ليس مسؤولاً عن مجمل السياسات التركية في أنحاء العالم، «وبالتالي لا يجوز أن يتم تحميل مبادرتي أكثر ممّا تحتمِل».