بعد «الهروب الجماعي» الى الأمام في عيدي الميلاد ورأس السنة في محاولة لاقتناص إجازة موضعية من الازمات الكثيرة، يعود اللبنانيون إلى مواجهة الواقع وحقائقه المريرة، فلا حكومة، ولا اقتصاد، ولا ودائع، ولا اطمئنان، بل مجهول وقلق وخوف وانتظار.
فور انتهاء مغامرة اللعب على حافة الهاوية في فترة الأعياد، بدأت عوارض هذه المغامرة بالانتشار مع تفاقم الاصابات بكورونا نتيجة التفلّت الاجتماعي الذي حصل خلال الاحتفالات بالميلاد ورأس السنة، فيما تبدو الدولة مجدداً أمام خيارات محدودة، أحلاها مر، في انتظار وصول اللقاح المنتظَر في شهر شباط، اذا صحّت التوقعات.
وتصبّ كل المؤشرات في اتجاه اتخاذ قرار هذا الأسبوع بمعاودة الإقفال العام لفترة تتجاوز الاسبوعين، وقد تمتد لـ3 اسابيع على الاقل وفق نصائح وتوصيات بعض الجهات الرسمية، على قاعدة انّ هذا الخيار يبقى أهون الشرّين مقارنة مع المخاطر الصحية التي يمكن أن يرتّبها بقاء حبل البلد فالتاً على غاربه، وسط مخاوف من ان يصل عدد الاصابات اليومي الى معدلات غير مسبوقة، تفوق قدرة القطاع الصحي على التحَمّل.
واذا كان تكرار الإقفال قد أصبح ضرورة قصوى، على الرغم من الأضرار الجانبية التي يلحقها بالقطاعات الاقتصادية، الّا انّ المشكلة التي تتجدّد كل مرة تكمن في انه يأتي إقفالاً مائعاً ورَخْواً، ما يؤدي إلى تراجع المردود المنتظَر منه.
والأسوأ في هذا المجال هو انّ الدولة بمنازلها الكثيرة لا تملك تصوّراً واحداً لطريقة التعاطي مع هذا الملف، بل تتضارَب المقاربات الرسمية في احيان عدة، وتتبايَن الآراء بين أهل القرار والاختصاص، الأمر الذي ينعكس تَخبّطاً في القرارات وآلية تنفيذها.
وليس خافياً انّ هناك نقصاً في الانسجام والتناغم بين بعض الوزارات المنخرطة في المعركة ضد وباء كورونا، كذلك توجد خلافات بين وزراء والمستشارة الصحية لرئيس الحكومة الدكتورة بترا خوري، وبين هؤلاء وأعضاء في اللجان المختصة بمواكبة هذا الملف. وحتى داخل تلك اللجان تتفاوَت المقاربات والاقتراحات، قبل أن تَرسو المداولات في نهاية المطاف على التوصية الاسهل، وهي الاغلاق الشامل.
صحيح انّ وصفة الاغلاق الكامل معتمدة في كثير من الدول، لكنّ الفارق، مقارنة مع لبنان، هو انّ التنفيذ يكون صارماً من جهة ومُندرجاً ضمن إطار استراتيجية واضحة من جهة أخرى، وهذه مسؤولية مشتركة تقع على عاتق السلطة والناس في آن واحد، ولا تنحصر في جهة واحدة فقط، إذ انّ كَسب التحدي ضد الفيروس يحتاج إلى الجناحين معاً، وأيّ خلل في احدهما سينعكس سلباً على مجمل الجهوزية.
ولعلّ انقطاع اجتماعات مجلس الوزراء، بحُكم استقالة الحكومة، ساهمَ بدوره في ظهور مَكامن ضعف في «الاستراتيجية الدفاعية» ضد كورونا، وإن يَكن مجلس الدفاع الأعلى يحاول التعويض من خلال جلساته وقراراته.
أمام هذا الواقع، تشعر وزارة الداخلية بأنّ الآخرين يَستسهلون إلقاء الاعباء عليها وتحميلها مسؤوليات ضخمة، «بينما يُفترض ان يكون هناك تكامل في الادوار والوظائف، حتى نستطيع أن نربح المواجهة مع عدو ماكِر تغلغَلَ في عمق مجتمعنا»، وفق اقتناع أوساط الوزارة.
ومن مظاهر التعثّر او التبعثر في الجهوزية الرسمية هو ما حصل قبل يومين أثناء احد الاجتماعات المخصّصة لدرس الاحتمالات الممكنة لاحتواء زحف الفيروس بعد الأعياد، حيث وقعَ تلاسن حاد بين وزير الداخلية العميد محمد فهمي وعضو في اللجنة الصحية لكورونا، جرى خلاله استخدام عبارات مدوية من العيار الثقيل.
وتفيد المعلومات انّ الاجتماع، الذي عُقد عن بُعد بواسطة تقنية الزوم، ضَمّ اللجنة الصحية وعدداً من الشخصيات المعنية. وقد ارتأى فهمي ان يشارك فيه بمبادرة فردية وبطريقة غير رسمية، على الرغم من عطلة الأعياد، من دون معرفة الآخرين بوجوده. وهو جلسَ في «الخطوط الخلفية» داخل أحد مكاتب وزارة الداخلية، يستمع الى المداخلات ويأخذ «نوت» من غير أن ينخرط في النقاش، بينما تولى مدير مكتبه العميد محمد الشيخ تمثيل الوزارة.
فجأة، ومع ارتفاع حرارة المداولات، انبرى أحد اعضاء اللجنة الصحية وهو طبيب (لم يكن يعلم بوجود فهمي) الى شَن هجوم لاذع على اللجنة الوزارية لكورونا، قائلاً: «لازم اللجنة الوزارية تحلّ عن هَونيك شَغلِة...».
صُعق فهمي ِلِما سمعه، واستشاط غضباً، فخرج من «الظل» فوراً وتوجّه الى صاحب الكلام بعبارات قاسية جداً من الوزن نفسه: «إنت اللي بتسوَى هونيك شَغلة»، قبل أن يوسّع هجومه ليشمل مهمة اللجنة الصحية ككل، قائلاً: «إنتو ضايعين.. ما عندكن مخطط واضح وآلية واضحة، هيدي طبخة بحص...».
ولم يَكتف فهمي بهذا المقدار، بل بادَر الى سحب العميد الشيخ من الاجتماع بعدما قرر المقاطعة احتجاجاً على «الإساءة التي تعرضت لها لجنة يترأسها رئيس الحكومة، وتضمّ عدداً من الوزراء، ويشارك فيها أحياناً قادة الأجهزة الأمنية. وبالتالي، فإنّ الشتيمة التي رَنّت في أذني تشمل هؤلاء جميعاً، وهذا ما لا يمكن أن أقبل به لأنّ كرامتنا هي فوق كل اعتبار»، وفق ما نُقل عن فهمي.
ويُبدي فهمي امتعاضه من «اتكالية معظم الأجهزة الرسمية على وزارة الداخلية بدل ان يؤدي كلّ منها واجبه بدقة»، كذلك يُعرب عن «قَرفه من الاستهتار الذي يطبَع سلوك غالبية اللبنانيين في مواجهة الوباء بينما يتقيّدون بالقوانين والإجراءات عندما يكونون في الخارج».