تفاقَم الخلاف على مصير وزارة المالية وقواعد التأليف الى حد انّ الرئيس نبيه بري ذهب في اتجاه إبداء الاستعداد لعدم المشاركة في الحكومة. فما هي أسباب بري، والى جانبه «حزب الله»، لخوض ما يشبه مغامرة سياسية على حافة الهاوية؟
لم يشعر الذين التقوا الرئيس بري خلال الساعات الماضية انّ لديه ايّ استعداد للتنازل عن مبدأ بقاء حقيبة المال في حوزة الطائفة الشيعية، مع انفتاحه المعلن سابقاً على البحث في طبيعة الشخصية التي ستتولاها.
وبَدا بري، بعد اجتماعه مع الرئيس سعد الحريري، غير مرتاح، كما أوحى «شهود العيان»، أمّا انطباعاته حول حصيلة اتصال الرئيس الفرنسي ماكرون به، فبقيت ملكه الشخصي، وإن تكن التسريبات المتداولة رَوّجت بأنّ نتائج الاتصال سلبية، فيما أشار قريبون منه الى أنه قال كلمته، ولا تراجع حتى لو كانت الكلفة خروج الثنائي من الحكومة.
ويعكس دخول ماكرون شخصياً على خط التجاذب حول وزارة المال وسعيه الى إقناع بري بالتخلي عنها، «الأهمية الاستراتيجية» لهذه الوزارة على مستوى الواقع اللبناني وتوازناته الدقيقة.
ويؤكد العارفون انه من المستحيل أن يبدّل بري موقفه أيّاً كانت الضغوط والتبعات، «واذا كان قد تنازل في السابق عن «المالية» تسهيلاً لمهمة الرئيس رفيق الحريري ومؤتمري باريس 1 و2، في ظل وجود سوري كان يضبط الإيقاع، ثم تساهل مرة أخرى خلال السنوات التي تلت استشهاد الحريري، الّا انه لم يعد في هذا الوارد الآن، خصوصاً مع تصاعد الاستهداف للطائفة الشيعية في هذه المرحلة وتَمدد العقوبات الأميركية التي حاولت بَتر الذراع اليمنى لرئيس المجلس والمتمثّلة في معاونه السياسي الوزير علي حسن خليل».
ولعلّ بري يخشى من أن تنزلق الحكومة المفترضة في اتجاهات اكثر خطورة لاحقاً إذا تم انتزاع «المالية» من المكوّن الشيعي. وبالتالي، فإنّ تمسّكه بهذه الحقيبة يشكّل، وفق المتحمّسين لموقفه، خَط دفاع متقدّم بالنسبة إليه لحماية الميثاقية والتوازن ولمنع أي شرود او انزلاق على جليد الحسابات المتهورة، «إذ انّ وزارة المالية هي البوابة الوحيدة للطائفة الشيعية الى الشراكة في السلطة التنفيذية، وخارج «التوقيع الثالث» لا مكان أو مكانة لها في دائرة القرار الاجرائي الحقيقي».
أكثر من ذلك، هناك في الوسط الشيعي من يعتبر انّ «المالية» تعادل مواقع قائد الجيش وحاكم المصرف المركزي ورئيس مجلس الانماء والاعمار ورئيس مجلس القضاء الأعلى، بحيث انه اذا كان لا بد من تغيير مذهب وزير المالية فيجب ان يواكبه أيضاً تغيير في هويّات من يتولّون تلك المناصب. َويستغرب قريبون من الثنائي الشيعي كيف أنّ الرئيس سعد الحريري، الذي يُسجّل له اعتماده خيارات مسؤولة في المرحلة السابقة لمنع أي نزاع سني - شيعي، يجازف حاليّاً باحتمال إعادة تأجيج الجمر المذهبي، وبتوتير العلاقة مع أحد اكثر الحرصاء عليه وهو نبيه بري، فقط من أجل العبث بستاتيكو وزارة المالية في توقيت غير مناسب بتاتاً، علماً انّ هناك من يرجّح بأنّ الحريري يتحرك في هذه المسألة على إيقاع ماكرون.
وأشد ما يزعج «الثنائي» ويُقلقه، استقواء البعض بالمبادرة الفرنسية ومهلها لمحاولة فرض أعراف غير مألوفة في التأليف، من نوع وضع فيتوات على حقائب معينة واحتكار تسمية الوزراء من دون التشاور مع أحد، والمبالغة المفرطة في التحسّس حيال وجود طيف حزبي في الحكومة، ما أدى الى تكوين انطباع في أوساط حركة «أمل» و»حزب الله» مفاده أنّ ما يجري ليس سوى «وَلدنة».
وتبعاً لمقاربة «الثنائي» فإنّ الآلية التوافقية التي جرى اتّباعها لتسمية الرئيس المكلف يجب أن تُعتمَد في تشكيل الحكومة، مع تأكيد حق الرئيس المكلف في تحديد معايير أو ضوابط مقبولة لاختيار الوزراء، «لكن ليس من حقه بتاتاً ان يفرض على الآخرين الأسماء من دون التفاهم معهم، لأنّ الوزراء هم بحكم النظام اللبناني ودستوره ممثلون لطوائفهم، وبالتالي من غير الجائز عند التأليف تجاهل رأي القوى الاساسية في تلك الطوائف وإلغاء نتائج الانتخابات النيابية، خصوصاً انّ ولادة الحكومة تحتاج في نهاية المطاف إلى ثقة الأكثرية النيابية».
وبناء عليه، يرفض «الثنائي» كلياً أن يسمّي الرئيس المكلف ومَن خلفه الوزراء الشيعة او أن يعبثوا بـ»الحقيبة الميثاقية»، لِما ينطوي عليه ذلك، في رأي المحيطين بالحركة والحزب، من إخلال كبير في قواعد تشكيل الحكومة، لا يستقيم مع معيار القوة السياسية والعسكرية للطائفة من جهة ولا مع الاستهداف الأميركي لها في هذا التوقيت من جهة أخرى».
وتعتبر شخصية سياسية ضمن نسيج الثنائي الشيعي انّ المطلوب من ماكرون ليس السعي الى تجيير «المالية» من طائفة الى أخرى، وإنما إنزال الذين استقووا به من أعلى الشجرة التي تسلّقوها.