كيف يمكن الخلاص من إرث الرئيس دونالد ترمب؟ يبدو أن هذا هو السؤال الذي بات يقضّ مضاجع قيادات الحزب الجمهوري الأميركي.
على هامش محاكمة الرئيس ترمب التي تجري في مجلس الشيوخ، جرت المقادير الأيام القليلة الماضية باجتماع على أعلى مستوى، ولو في العالم الافتراضي، بين المسؤولين السابقين في الحزب الجمهوري؛ أولئك الذين يمثلون الجناح التقليدي للحزب، الذي يرى أن ترمب قد أضر بالحياة السياسية والديمقراطية الأميركية، وأنه لمواجهته في الحال، ومجابهته في الاستقبال، يتعين عليهم تشكيل حزب أو طريق جديد ثالث ذي توجه «يميني وسطي»، والعهدة هنا على وكالة «رويترز» للأنباء التي نقلت الخبر عن أربعة أشخاص شاركوا في الحوار.
الهدف المعلَن للطرح الجمهوري المثير هذا، هو توفير، ولو بشكل مبدئي، مرشحين جمهوريين قادرين على التزام الدستور، وسيادة القانون، وهي أفكار يؤمن المحافظون من الجمهوريين أنها تعرضت لعسف وخسف شديدين من قبل ترمب وفريقه، وأنه حان الوقت لتصويب مسار الحزب الأميركي الكبير.
هل هناك من سيناريوهات تجعل للجمهوريين مدركات خفية من اللقاء الأخير؟
المؤكد أن ذلك كذلك، لا سيما إذا كانت حصيلة محاكمة ترمب هي البراءة، وهو أمر متوقّع، بدرجة كبيرة، وأي احتمال آخر يعني انتحار الحزب الجمهوري بشكل علني... ماذا يعني هذا الحديث؟
في الأيام الأخيرة لترمب في البيت الأبيض، أدرك الرئيس السابق أنه من الصعب الوقوف في وجه العاصفة، لكنه قد يكون من المناسب الاختباء عند الذروة، ثم العودة إلى الميدان، بعد انجلاء الأجواء.
كشفت «وول ستريت جورنال»، في 20 يناير (كانون الثاني) المنصرم، عن النقاش الذي دار بين ترمب ومساعديه، فضلاً عن أشخاص مقربين ومستشارين، حول تأسيس حزب سياسي أميركي جديد، غالب الأمر سيكون اسمه «الحزب الوطني».
في هذا السياق، يكون من اليسير فهم لقاء كوادر الحزب الجمهوري مؤخراً، إذ يجيء كخطوة استباقية لما يمكن لترمب أن يقدم عليه.
السؤال الجوهري: هل يمكن لترمب بالفعل أن يمضي في سياق هذه الخطوة التي تمثل الطريق الثالث من جهته، وبالنسبة أيضاً لكثير من الأميركيين، جمهوريين وديمقراطيين، من الذين ملوا من الشكوى بسبب الفساد الذي عم الحياة السياسية الأميركية؟
يمكن القطع بأن مسألة الإمكانيات المالية متوافرة لدى ترمب، أما القاعدة الجماهيرية الشعبية فتعد بالملايين، لا سيما إذا أخذنا في عين الاعتبار أن بعضاً منهم لم ينخرط في السياسات الجمهورية قبل حملة ترمب الرئيسية في عام 2016.
الأرقام لا تكذب ولا تتجمل، وهذا ما يجعل عتاة الجمهوريين يشعرون بقلق بالغ من قبضة ترمب على الحزب الجمهوري، حتى بعد أن خسر الانتخابات الرئاسية، وإن كان هناك نحو 74 مليون جمهوري صوّتوا له يؤمنون بأنها انتخابات مزورة، وأن أركان الحزب الجمهوري متآمرون مع الحزب الديمقراطي؛ فقد جاء ترمب من خارج إطار النخبة السياسية، ليفسد عليهم رؤيتهم الفوقية، لاختطاف أميركا، بلغة اليمين المتشدد.
من بين تلك الأرقام ما أظهره استطلاع رأي أجرته صحيفة «وول ستريت جورنال»، عشية الانتخابات الرئاسية، أظهر تأييد 54 في المائة من قواعد الحزب الجمهوري للرئيس السابق ترمب، مقابل 38 في المائة لقيادات أخرى.
وفي الأسبوع الأول من شهر فبراير (شباط) الحالي، كانت صحيفة «ذا هيل» الأميركية تشير بدورها إلى أن 64 في المائة من الناخبين الجمهوريين قد أعربوا عن استعدادهم للانتقال إلى حزب جديد بزعامة ترمب، فيما قال 32 في المائة إنهم سينضمون على الأرجح.
على أن الأمر الذي جعل عتاة الجمهوريين والديمقراطيين في حيرة من أمرهم تجاه ترمب، هو أن 28 في المائة من المستقلّين المستطلعة آراؤهم، و15 في المائة من الديمقراطيين، مستعدون للانضمام إلى حزب ترمب الجديد.
نحن هنا في واقع الحال أمام جناح ترمبي جمهوري، باقٍ على المدى الطويل، يعتريه الغضب، وأعداد مؤيديه كبيرة، ونفوذه السياسي قوي داخل الحزب الجمهوري، والحديث على لسان البروفسور تيري مو، أستاذ العلوم السياسية في جامعة ستانفورد الأميركية.
ما الذي فعله دونالد ترمب خلال سنواته الأربع الماضية، ليحصد هذه الشعبية الفائقة داخل الحزب الجمهوري؟
بحسب غالبية المفكرين الأميركيين الكبار، وفي مقدمهم فرنسيس فوكوياما، فإن ترمب استطاع أن يعزف على أوتار التهميش التي تعرض لها الرجل الأبيض، لا سيما الشرائح العمالية التي تعتقد أن مصالحها تكمن في الالتفاف حول زعيم يتصدى للصين، ويناصر الحريات الدينية والشخصية، تلك التي تعرضت للذوبان في وسط صخب الحياة الأميركية، في العقود الخمسة الأخيرة.
ناهيك من ذلك، فإن سياسات ترمب المناهضة للهجرة قد لاقت ترحيباً كبيراً عند الخائفين من الانقلاب الديموغرافي في التركيبة السكانية الأميركية، كما أن وعوده بزيادة أجور العمال، وخلق فرص عمل أكثر، وترديده لشعار «أميركا أولاً»، قد خلق رابطاً قوياً يقوم على نزعة قومية أكسبته الملايين من الأميركيين.
خسر الجمهوريون الانتخابات الرئاسية، لكن هناك ما لم يتوقف الكثيرون أمامه، وهو فوزهم بغالبية المجالس التشريعية في الولايات الخمسين، ما يجعل من إمكانية عودتهم للسيطرة على مجلس النواب في 2022 أمراً ممكناً، وإذا نجحوا في ذلك يمكن أن يكون لترمب عودة وعد بها نهار رحيله.
الجمهوريون في مجلس الشيوخ في مأزق؛ إن اختاروا تبرئة ترمب، سيبدون داعمين لحدث مجافٍ ومنافٍ لقواعد اللعبة الديمقراطية الأميركية، وإن دعموا إدانته، فسوف ينهار الحزب الجمهوري على رؤوس الأشهاد.
الخلاصة: الفكاك من شباك ترمب أمر صعب على الأميركيين... إنه الطريق الثالث حكماً، وأوان الانشقاق بكل تأكيد.