بقلم : إميل أمين
في إحدى رواياته يسطر سيد القصة القصيرة الروسية، وأحد أهم الكتّاب المسرحيين الروس، أنطون تشيخوف، أنه «إذا ذكرت في الفصل الأول لرواية ما أن هناك بندقية معلقة على الحائط، فلا بد لها أن تنطلق في الفصل الثاني أو الثالث على الأرجح».
هل يمكن أن تنسحب رؤية تشيخوف على واقع حال روسيا الاتحادية، وبخاصة بعدما أظهرت الصور الجديدة التي التقطتها شركة «ماكسار تكنولوجي»، حشوداً للوحدات المدرعة والدبابات والمدفعية ذاتية الدفع، جنباً إلى جنب مع القوات البرية التي تحتشد بالقرب من بلدة يلنيا الروسية بالقرب من حدود بيلاروسيا؟
المشهد المتقدم تكرر في أبريل (نيسان) الماضي وأثار مخاوف الأوكرانيين بنوع خاص، والغرب بشكل عام، غير أن التحركات الروسية الأخيرة منذ سبتمبر (أيلول) المنصرم، بدأت تشمل وحدات من نخبة الدبابات المعروفة بجيش دبابات الحرس الأول، والعهدة هنا على الراوي صحيفة «بوليتيكو» الأميركية الشهيرة.
من الطبيعي أن ينكر الرئيس بوتين هذه الحشود وتلك التحركات، لكن صور الأقمار الصناعية لا تكذب ولا تتجمل، إنها تميط اللثام عما يجري على الأرض، وإن بقيت مكنونات الصدور غير واضحة بما يكفي.
القيصر الروسي غاضب جداً، ويعتبر أن خطط الولايات المتحدة لنشر صواريخ متوسطة المدى في أوروبا، تشكل خطراً كبيراً وتهديداً واضحاً لبلاده.
منذ نحو عقدين وأكثر لا ينفك بوتين يتحدث عن الخطأ الذي يشابه الخطيئة من قبل «الناتو»، حيث تسبب في تفخيخ الاتحاد السوفياتي داخلياً، وتفكيكه خارجياً؛ ولهذا بدا في اجتماعه نهار الاثنين الماضي مع قيادات وزارة الدفاع في حالة تحفز غير طبيعية.
خلال اللقاء الرئاسي الروسي بالقيادة العسكرية، بدا وكأن ضابط الـ«كي جي بي» السابق يقوم بتعبئة بندقية تشيخوف الروسية؛ استعداداً لإطلاقها إذا لزم الأمر، وقد يلزم بالفعل عما قريب، إنْ بشكل مباشر من خلال الصدام مع واشنطن، أو من خلال صدام الأخيرة مع بكين، وقبلهما هناك الفخ الأوكراني المنصوب صباح مساء كل يوم لسيد الكرملين.
بندقية بوتين تتبدى ظاهرة في أحدث نظام صاروخي سوف ينضم قريباً للترسانة الروسية، «إس – 500»، ضمن منظومة الدفاع الجوي الروسية الحديثة، والقادرة على كشف الصواريخ الباليستية وفرط الصوتية الأميركية بأنواعها كافة، وتدميرها في أي نقطة من مسار رحلتها.
البندقية عينها تمضي في إطار تطوير الطيران البحري وتجهيزه بأنظمة تدمير واعدة، وذلك مع الأخذ في الاعتبار قدرات البحرية الأجنبية.
في مسار سياسي موازٍ لحديث صوت بارود البندقية الروسية، يعلو الصوت الدبلوماسي، الذي يستبق قعقعة السلاح، الأمر الذي تمثل في تصريحات رجل الخارجية الروسية العتيد، سيرغي لافروف، الذي أشار قبل بضعة أيام، وفي حديثه مع «قناة 24» الروسية، إلى أن أوكرانيا تحاول من خلال الاستفزازات التي تقوم بها في منطقة دونباس، جر روسيا إلى أعمال عسكرية.
لافروف لفت الانتباه إلى ما اعتبره، حادثة غامضة، تلك التي تمثلت في استخدام طائرة بيرقدار من دون طيار في دونباس، وقال إن قائد القوات المسلحة الأوكرانية يعلن استخدام هذه الأسلحة، في حين وزير الدفاع يقول إنه لم يحدث شيء من هذا القبيل، فهل تريد أوكرانيا إظهار قوتها وانتهاك اتفاقية مينسك؟
أوكرانيا وعلى مدى سبع سنوات عملت جاهدة، وبدعم أميركي – أوروبي، على إرجاع إقليم دونباس، وكانت روسيا تصدها من غير أن تصل إلى شفا حرب ساخنة، أو أن تصبح طرفاً في النزاع.
هل سيتغير المشهد عما قريب وتنطلق بندقية المؤلف الروسي الذي أبدع في تصويره معاناة الإنسان وعجزه عبر رواياته، كما في عمله الخالد «غابة الشيطان» 1889؟
يوماً تلو الآخر تنهار الثقة بين موسكو والناتو، ولدى الروس قناعة مطلقة بأن خطط الحلف الغربي تسعى جاهدة في طريق ضم أوكرانيا وجورجيا إليه، الأمر الذي يعني تهديداً غير مسبوق للروس منذ هجوم النازي خلال الحرب العالمية الثانية، وهو ما لن تقبله موسكو في الحال، وما لن تسمح به في الاستقبال.
لافروف يقطع بقوله، إن روسيا لا تمتلك أي معلومات عن نوايا «الناتو»، معتبراً أن الحلف لا يسعى إلى إقامة أي تعاون مع بلاده.. جاء ذلك في العاصمة الإيطالية روما عشية انعقاد قمة العشرين، التي استبقت لقاء غلاسكو للمناخ، حيث غاب بوتين، الذي يبدو أنه منشغل بما هو أهم وأخطر، على الأقل بالنسبة لوطنه وقومه.
هل من علاقة ما بين حشود الروس التي ترصدها عيون وآذان البنتاغون عبر أقماره الصناعية، وبين الزيارة المثيرة للتفكير التي قام بها مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، وليام بيرنز، نهار الثلاثاء الماضي إلى موسكو ولقائه مع سكرتير مجلس الأمن الروسي، نيكولاي باتروشيف؟
البيان الذي صدر عن مكتب الأخير يفسح المجال واسعاً للهواجس والشكوك، بأكثر مما يدعو إلى الطمأنينة والتهدئة، حيث جاء فيه «بحث الطرفان العلاقات الروسية - الأميركية»، هكذا ومن دون ذكر أي تفاصيل عن المحادثات.
تبدو هناك مخاوف جدية في واشنطن من أن التركيز على الصين، وانشغال إدارة الرئيس بايدن بقضية جزيرة تايوان، قد يتسبب في إتاحة الفرصة لتكرار الخطأ الأوبامي، والمتمثل في اتباع سياسة القيادة من وراء الكواليس، حيث قامت موسكو بملء مربعات النفوذ الأميركي المفرغة في سوريا على سبيل المثال، ولهذا فإن النصيحة الموجهة إلى الرئيس الأميركي كالتالي «لا تدعوا الصين تشتت انتباهكم عن روسيا».
هل للحشود الروسية على الحدود مع أوكرانيا علاقة بتحذيرات الصين الأخيرة لمواطنيها؟
قد يكون الجواب طي بندقية تشيخوف.