عن قمة باريس للذكاء الاصطناعي

عن قمة باريس للذكاء الاصطناعي

عن قمة باريس للذكاء الاصطناعي

 لبنان اليوم -

عن قمة باريس للذكاء الاصطناعي

إميل أمين
بقلم - إميل أمين

خلصت قمّة الذكاء الاصطناعي التي شهدتْها العاصمة الفرنسية باريس في الأيام القليلة الماضية إلى الكثير من المفارقات، في مقدّمها رفض الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا التوقيع على البيان الختامي للقمّة، الأمر الذي أثار الكثير من التساؤلات وربما المخاوف حول هذا القادم المثير وربما الخطير، والكفيل بتغيير أوضاع البشرية في العقود القادمة.

البيان باختصار غير مُخِلّ، أكّد على أولويّاتٍ بعينها، منها أن يكون الذكاء الاصطناعي مفتوحًا وشاملاً وأخلاقيًّا وآمنًا وجديرًا بالثقة، مع مراعاة الأطر الدولية للجميع والاستدامة للبشر وللكوكب.

يَعِنّ لنا أن نتساءل أوّل الأمر: "هل هذه كلمات واقعيّة حقيقيّة، أم أنها كلمات يوتوبيّة لن تفلح في أن تداري أو تواري حقيقة هذا الهول الأعظم القائم اليوم والقادم في الغد بأسوأ مما يمكن أن تحتمله البشريّة؟

قبل أن يغادر عالمنا المعاصر، تحدَّثَ ثعلب السياسة الأميركية هنري كيسنجر واصفًا هذا النوع من الذكاءات بأنه "الديكتاتور القادم"، والذي لن تتمكّنَ البشرية من الفكاك من قيوده وسدوده، بل وحدوده في العالم الافتراضيّ.

أمّا الفتى المعجزة أيلون ماسك، فبدوره اعتبر أنه الأداة الأكثر تهديدًا لمستقبل البشر، هذا على الرغم من أنه هو عينه من كبار الفاعلين في هذا السياق الجديد.

وفي كل الأحوال وبدون الدخول في عمق تعقيدات المشهد، تبدو البشرية اليوم وكأنها على ضفاف هذا المنتج الجديد وذلك عبر زمن الـAI ، أي الذكاء الاصطناعي الاعتيادي، وفي الطريق هناك الـ SAI، أو السوبر ذكاء اصطناعيّ، والذي يمثّل مرحلةً متقدّمة من التطور الهائل، بينما الجميع يعتقدون بأنّ المرحلة الثالثة سيُطلَق عليها الـ AGI أو الذكاء الاصطناعيّ العام، الذي سيشمل كافّة أوجه الحياة البشرية المعاصرة، ما يفيد بأنّ مرحلةً قادمةً، وغالبًا سريعة، من عمر البشرية، ستغادر كل المربعات المألوفة والمعروفة طوال الألفي عام بعد الميلاد، وعشرات آلاف السنين أو مئاته منذ خلق الإنسان.

الملمح الأول في قمة الذكاء الاصطناعي الباريسية، تَمَثَّلَ في الفوقية الأميركية التقليدية المعتادة، وربما كان الحدث هو النافذة الأولى التي أطلّ منها نائب الرئيس الأميركي جي دي فانس، والذي ألقى كلمةً بَدَتْ وكأنها إملاء شروط من القوة العظمى المنفردة بمقدَّرات الكرة الأرضية، وما على العالم إلا اتّباعها.

بدا فانس أمام الحضور واثقًا بالمطلق، وعلى العكس من الكثيرين من العلماء والمفكرين والباحثين، الأميركيين والأوروبيين وغيرهم، في أن الذكاء الاصطناعيّ لا يهدد مستقبل البشرية، بل يخدمها، وعليه فإنّه لا يتوجب أبدًا الخوف الزائد من هذه التقنية التي تتطور باستمرارٍ.

وبينما أكّدتْ غالبيّةُ الدول في القمّة على ضرورة خلق بيئة تنظيميّة أكثر فعاليةً، أعاد نائب الرئيس الأميركي التأكيد على أن المزيد من القيود "يخنق" الابتكار.

تبدو الرؤية الأميركيّة في حقيقة الأمر تجاه هذا القادم من المجهول، منفلتةً، وبصورة تدعو الأذهان إلى أن تتذكر التبعات التي خَلَّفَهَا اكتشافَان:

الأوّل موصول بألفريد نوبل، الرجل الذي توصل إلى فكرة الديناميت، ومؤكّد كانت نيّته سليمة، أي استخدامه بصورة تخدم الإنسانية وتيسر من حياة الإنسان آنذاك، ولاحقًا أدرك مقدرًا الخطر الذي توصّل إليه، فرصد مبالغ طائلة لجائزة نوبل للسلام تكفيرًا عن خطيئته.

الثاني يخصّ العالم الفيزيائي الأميركي الكبير ألبرت أينشتاين، الرجل الذي يعتبر ولو مع بعض العون من آخرين، من يقف وراء فكرة انشطار الذرة، ومن ثم بلورة فكرة القنابل الذرية، تلك التي تحمل الموت السريع والشتاء النووي، وقد كتب في نهايات أيامه خطابًا مطوَّلاً يأسف فيه على ما فعلتْ يداه من جُرْمٍ لا يُغتفَر.

لم تُوقِّع الولايات المتحدة المتمثلة في نائب الرئيس دي فانس على بيان القمة، الذي وَقَّعتْ عليه 61 دولة من بينها دول كبرى ذات أوزان تاريخية وحضارية، تدرك مخاطر خروج الجِنّي من القمقم مثل ألمانيا وفرنسا، الصين والهند، أستراليا وكندا.

مشهد قمة الذكاء الاصطناعيّ الأخير يقطع بأن إدارة الرئيس ترمب ماضية في طريق الفوقية الإمبراطورية، عبر أدوات الذكاء الاصطناعي، وهو ما تبَيَّنَ جليًّا في اليوم التالي لتنصيب الرئيس ترمب، وذلك حين أعلن عن المشروع الذي يحمل اسم "ستارغيت" للذكاء الاصطناعي بتكلفة قدرها 500 مليار دولار أميركي، بقيادة مجموعة "سوفت بنك اليابانيّة" وشركتَيْ "آوراكل" و"تشاب جي بي تي".

خطوة ترمب جاءت بعد التراجع عن الأمر التنفيذي الذي أصدره سلفه جو بايدن، بشأن الذكاء الاصطناعيّ، وكان يهدف إلى التقليل من المخاطر التي يفرضها على المستهلكين والعمال والأمن القومي، لا سيما أن هذا النوع من الذكاءات يتطلب قوة حوسبة هائلة، ما يزيد الطلب على مراكز البيانات المتخصصة التي تُمكّن شركات التكنولوجيا من ربط آلاف الرقائق معًا في مجموعات.

هل الذكاء الاصطناعيّ هو "الأخ الأكبر" لجورج أورويل، لكن بطبعة عصرانيّة، يمكنها أن تحاصر الإنسان وتحصر، بل وتعصره أنّى شاءت؟

غالب الظن أن هذا صحيح إلى درجة كبيرة، الأمر الذي يتطلب وعيًا وتنظيمًا أمميًّا حقيقيًّا، وهو ما تودّ إدارة ترمب أن يجد طريقه إلى الواقع العمليّ لأنه يتقاطع مع تطلعها للهيمنة على مقدرات بقية الأقطاب العالمية الساعية للتعاون والشراكة، وليس للسيادة والهيمنة.

في كلمته أمام القمة الباريسية، حذَّرَ دي فانس ممّا أسماها "التحيُّزات الإيديولوجية" والخوف من أن يتحول الذكاء الاصطناعي إلى "أداة للرقابة الاستبدادية".

الكلام حسنٌ جدًّا، غير أن الواقع يقطع بأن واشنطن هي التي تمضي جاهدةً لا يعيقها شيء على أدلجة الذكاءات الاصطناعية، وبما يجعلها سيدة قيصر التي لا تخطئ وعبر النطق السامي لساكن البيت الأبيض، وفي الوقت نفسه تمتلك أعين زرقاء اليمامة الرقمية ومن خلالها تنظم شؤون الكون، وترسم ملامح ومعالم شجونه في الوقت نفسه.

الكارثة لا الحادثة في التوجه الأميركي هذا هو أنه سيدفع حكمًا دولاً أخرى وأقطابًا قطعًا مناوئة وفي مقدّمها الصين، في طريق سباق ذكاءات مدمّرة، وبأسعار رخيصة، وبإمكانيات فائقة التقدم، يمكنها أن تحول العالم برمته إلى ميدان صراع اصطناعي ماورائيّ، وعلى غير المصدَّق أن يعيد قراءة قصة الاختراع الصيني المسمَّى "ديب سيك" والذي يعمل بألفين من الرقائق الاصطناعية في مواجهة الـ"تشات جي بي تي" الأميركي، والذي يحتاج إلى 12 ألفًا من تلك الرقائق.

تبدو البشريّة في حاجة ماسّة للذكاء الاصطناعي، لكن ذلك النوع الذي يكافح الفقر ويحمي الثقافات ويحقق الاستدامة البيئيّة للكرة الأرضية برُمَّتها، ويساعد في مكافحة التغير المناخي، وليس فقط الجانب المخيف المرتبط بالقدرات السلبية للتحكم في مصائر البشرية من طاقة مهدرة، واستثمارات تُهَمِّش البشر، وموارد تفنى في طريق أسلحة جهنمية ما أنزل الله بها من سلطان لدمار الإنسانية لا عمار الأرض.

هل من خلاصة؟

نعم أي ذكاءات لا تجعل من الإنسان القضية والحلّ، هي ذكاءات مخرّبة لا تقلّ ضراوةً عن ديناميت نوبل وذرة أينشاتين.

 

lebanontoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

عن قمة باريس للذكاء الاصطناعي عن قمة باريس للذكاء الاصطناعي



GMT 22:09 2025 الأحد ,14 كانون الأول / ديسمبر

سنوات الهباء

GMT 21:09 2025 الأحد ,14 كانون الأول / ديسمبر

حضرموت ومنطق الدولة

GMT 20:52 2025 الأحد ,14 كانون الأول / ديسمبر

عن هجاء «النظام الطائفي» في لبنان

GMT 20:51 2025 الأحد ,14 كانون الأول / ديسمبر

الغرب يعالج مشاكله... على حساب الآخرين!

GMT 20:50 2025 الأحد ,14 كانون الأول / ديسمبر

المشهد البريطاني تحت قبضة «الإصلاح»

GMT 20:49 2025 الأحد ,14 كانون الأول / ديسمبر

أفكار حول التطوّر التقني وحيرة الإنسان

GMT 20:48 2025 الأحد ,14 كانون الأول / ديسمبر

بدور نسجت تاريخها

GMT 20:45 2025 الأحد ,14 كانون الأول / ديسمبر

على وزن المطار السري

الرقة والأناقة ترافق العروس آروى جودة في يومها الكبير

القاهرة ـ لبنان اليوم
 لبنان اليوم - الجزر وفيتامين A عنصران أساسيان لصحة العين وتحسين الرؤية

GMT 13:42 2020 الإثنين ,29 حزيران / يونيو

يحذرك هذا اليوم من المخاطرة والمجازفة

GMT 10:45 2020 السبت ,29 شباط / فبراير

التصرف بطريقة عشوائية لن يكون سهلاً

GMT 17:53 2020 الثلاثاء ,27 تشرين الأول / أكتوبر

حظك اليوم برج العذراء الإثنين 26 تشرين الثاني / أكتوبر 2020

GMT 16:53 2021 الثلاثاء ,05 كانون الثاني / يناير

فساتين زفاف من جيني بايكهام لخريف 2021

GMT 16:44 2018 الثلاثاء ,23 كانون الثاني / يناير

تسريب صور مخلة للآداب للممثلة السورية لونا الحسن

GMT 21:23 2019 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

جبران باسيل يلتقي وكيل وزارة الخارجية الأميركية

GMT 16:36 2019 الثلاثاء ,22 كانون الثاني / يناير

النجمة يستعير لاعب الترجي التونسي شاونا

GMT 12:17 2019 الثلاثاء ,28 أيار / مايو

بوتين والسيسي يترأسان أول قمة روسية إفريقية

GMT 11:37 2017 الخميس ,05 تشرين الأول / أكتوبر

إنفوغراف 21
 
lebanontoday
<

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

lebanontoday lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday
Pearl Bldg.4th floor, 4931 Pierre Gemayel Chorniche, Achrafieh, Beirut- Lebanon.
lebanon, lebanon, lebanon