بقلم : فـــؤاد مطـــر
مصادفة لافتة، وهي أنه في زمن استحضار وثبة رفيق الحريري كرجل أعمال عصامي وناجح لعلاج الجراح الاقتصادية تمهيداً بعدما ترأس لعلاج الجراح الوطنية، ومناسبة الاستحضار الذكرى السادسة عشرة لتغييبه.
في الزمن هذا يختار إخواننا الليبيون صيغة علاج لأزمتهم التي قاربت على الاستعصاء تتمثل في ثنائية إدارة حُكم للدولة التي توالى عليها العصف العاتي، وكاد يوصلها إلى مشارف الصوملة في الحد الأقصى وإلى الاصطفاف إلى جانب فنزويلا كأقرب تقدير (ذات الرقم الأسطوري الضخم 3 آلاف في المائة).
ليبيا الدولة العضو في منظمة الدول المصدِّرة للنفط تتعطل فيها مشاريع التنمية التي رغم البدء بها متأخرة فإنها كانت ستجعل دولة السبعة ملايين قريبة الشبه من جاراتها على الضفاف المتوسطية غير البعيدة عنها، بدل أن تتآكل بفعل التناحر وبعثرة الجهود وارتهان أطياف إلى غرباء باحثين عن أمجاد على حساب الآخرين.
كانت الصيغة التي تم الأخذ بها تصويتاً لا ضغوطاً على المشاركين فيه هي أن يكون المنصب الأول للدبلوماسية في «الجمهورية الليبية الأُولى» تتعامل بكل الهدوء والتفهم والقدرة على إبداء النصح، وأن يكون المنصب الثاني لمَن في استطاعته أن يرمم ويبني ويضحي ويقتبس من تجارب الآخرين خطوات من الإصلاح والتصحيح تنتشل الوطن الليبي الجريح من كل أنواع السهام التي تكسَّر بعضها على بدنه وأنزفت أُخرى إلى جانب البدن، تاريخاً عريقاً للمجتمع القَبَلي الليبي.
القول إن الذي تم التوافق عليه رئيساً للحكومة وهو عبد الحميد دبيبة يمكنه كرجل ومهندس وفي العقد السادس من العمر بما يعني أنه سن النضوج، سينتشل ليبيا من الحال التي باتت عليها بعد عشر سنين من القتال فيها والمراهنات عليها وتسويق ظاهرة «الجيش المرتزق» يسرح ويمرح على أرضها، قيل يوم بدأ طرح اسم رجل الأعمال اللبناني رفيق الحريري لترؤس حكومة ترمم. في الحالة الحريرية كثرت التساؤلات: ما الذي في استطاعة هذا الطارئ على نادي الذين يترأسون في لبنان أن يفعله؟ وهل نجاحه في إنجاز مشاريع بناء عمرانية طموحة أنجزها في اغترابه السعودي تؤهله لترؤس حكومة مجتمع سياسي وحزبي ميليشياوي في تركيبته وحتى في توارث الزعامة، وهو ليس من هذا الطيف؟
كان اقتحام الحريري ساحة إعادة البناء وتطوير نشر عقيدة السماحة والتسامح وتنشيط الهمم والسواعد لاستعادة لبنان، وقد خلا من سنواته الظالمة والمظلمة فِعْل إرادة جسورة مع هامش من المغامرة، وأمكنه تحقيق خطوات نوعية في هذا السبيل، لأنه أحد رموز الإعمار وتآلف القلوب. هو من نسيج الذين عندما يتولون منصباً يفكرون بالوطن، الذي لا أحد أهم أو أكبر منه، وبتنمية وبمطالب الناس ثم بعد ذلك يشغلون أنفسهم بالسياسة ومسالكها على أنواع هذه المسالك التي في النهاية تأخذ من وقت المسؤول وواجباته.
الآن تبدو «الجمهورية الأُولى» في ليبيا أمام نقلة نوعية. ونحن عندما نقول «الجمهورية الأولى»، فعلى أساس أن العقود الأربعة الماضية كانت عقود «الجماهيرية الليبية» وتلك بدعة ثورية استنها العقيد معمَّر القذّافي - رحمة الله عليه - تأكيداً من جانبه لمقولة مرتبطة بليبيا ماضياً وحاضراً وما بين الماضي والحاضر، وهي أنه من ليبيا يأتي الجديد، أو يأتي ما ليس له شبيه من قبْل بأمل أن يصبح له شبيه من بعد أو في زمن حدوثه، ولقد رحل صاحب «الجماهيرية» الذي كان هو الآخر جديداً من حيث النوع والتفكير والأحلام والتطلعات، إنما من دون أن يحدث استنساخ لهذا الجديد. وتلك حكاية حقبة درامية تاريخية تحتاج الإضاءة عليها إلى مركز أبحاث وتوثيق.
عندما قارب الوضع في ليبيا نقطة الانهيار الكامل كانت هنالك وقفة غير مسبوقة من جانب مصر. قال الرئيس عبد الفتاح السيسي الكلمة ذات الصدى الفاعل، وهو يستعرض أرتالاً من القوات المصرية في أقرب نقطة حدودية مع ليبيا. ثم بلور الوقفة من خلال لقاءات الرموز الفاعلة العسكرية والقبائلية. وكان حرياً بالذين يضخون السلاح ويواصلون الشحن المذهبي كما توريد المرتزقة إلى ليبيا من أجل قتل عنفوان الليبيين، وإنهاء أسطورة بطولة عمر المختار وصموده، أن يرتدعوا.
هذه الوقفة واكبها النصح والدعم السياسي في أعلى درجاته من جانب السعودية، وبعض الدول الخليجية. كما واكبها ثبات على نوازع الوطنية الليبية لدى الجيش، ثم يدخل التأثير الدولي - الأوروبي - الأميركي عنصراً مهماً على عملية التفاوض، وكل ذلك من دون أن يخطر في البال أن نهاية المطاف كانت الاقتناع بأن قارب العبور بليبيا من عشر سنوات عجاف إلى مشارف بر الأمان هو أن تأخذ فرصتها وتجرِّب ليبيا الدبلوماسية في شخص سفيرها لدى اليونان محمد المنفي رئيساً «المجلس الرئاسي»، وأما رئاسة الحكومة فتكون لأحد رموز البناء عبد الحميد دبيبة المهندس - رجل الأعمال المخضرم الذي على بينة من السلبي والإيجابي في مسيرة الحُكْم في بعض سنوات القذَّافي، ثم في السنوات العشر العجاف التي كانت عبارة عن محاولات تدمير ليبيا كدولة ذات رقم صعب في فضائها المغاربي وحضور مرحب به في فضائها الأوروبي وحليف إلى درجة التعاون مع مصر، في ضوء تنقية محاولات حدثت في زمن كل من الرئيسين أنور السادات وحسني مبارك ثم جاء الرئيس عبد الفتاح السيسي يرممها أهدأ ترميم، وكأنما البلدان الجاران على موعد مع خطوة نوعية آتية، وتنسجم مع الجديد الذي لا بد شكَّل تحفيزاً لإنجازه ذلك التوافق الذي جرى في قمة «العلا»، وبالذات مشهد التعانق بين قيادتين واعدتين في المشهد الخليجي لربع القرن الآتي: الأمير محمد بن سلمان ولي العهد السعودي والشيخ تميم بن حمد أمير دولة قطر.
بقي لبنان في دائرة المجهول والحرب والفوضى عشر سنين إلى أن أنتج اتفاق الطائف الحل الموضوعي للحالة اللبنانية، ثم نشرت صيغة رجل الأعمال رفيق الحريري لترؤس الحكومة الطمأنينة فالمباشرة بالإعمار، وهكذا عاد لبنان يضيء بضع سنوات. ما بعد ذلك لا نتمناه «الجمهورية الأُولى» في ليبيا التي ستبدأ بنكهة حريرية وبعهدة رئيس دولة آتٍ بقفازات دبلوماسية ورئيس حكومة على موعد مع أقدار ربما تصنِّفه مستقبلاً على أنه عبد الحميد الليبي الذي عمَّر، وليس كما عبد الحميد العثماني الذي جاء حفيده إردوغان يمعن ما استطاع مع عثمانيي الزمن الليبي تدميراً للحل الذي يعيد وضع هذا الوطن على سكة الاستقرار وإهانة للكرامات القبلية الليبية شرقاً وغرباً، وسطاً وجنوباً. كان الله في عون الثنائي المنفي - دبيبة وحارس التجربة الجنرال خليفة والذي حوله من قيادات مارست للمرة الأُولى تجربة الدفاع عن وطن الأجداد. ورحمة الله على رفيق الحريري الذي ما أحوج لبنان إلى رؤاه وتأكيداً لمقولته «ما حدا أكبر من وطنه». هل يفهم الحاضرون ذلك؟ عسى ولعل.