بقلم : فـــؤاد مطـــر
ليس جديداً على المجتمع السياسي اللبناني هذا الذي يعيشه منذ بضع سنوات. وبالنسبة إلى كل مَن يريد الانتساب إلى هذا المجتمع، عليه أن يتخلى عن كامل المثالية والمبدئية، أو إذا كان يعزّ عليه هذا التخلي الأشبه بالتعري، فإنه يحتفظ لنفسه ببقية مثالية ومبدئية يوظفها من باب الاضطرار أحياناً إلى إعادة نظر في منهج أو تصحيح موقف تسرَّع في اتخاذه.
هذا الذي نقوله بإيجاز عشناه في خلال نصف قرن من الحراك السياسي في لبنان. وهذا النصف القرن كان في بعض مراحله وممارسات أهل السياسة امتداداً للنصف القرن قبْله.
وهكذا بات اللبناني وهو يتأمل في الأمواج السياسية المتلاطمة لا يستغرب اللعبة من جانب هذا الطيف أو ذاك. ولنا على سبيل المثال لا الحصر كيف أن ميشال عون (الجنرال) قال في حق سوريا الأسدية أكثر بكثير من الذي قاله المعارضون السوريون، سواء في حق حُكْم الأسد الأب ثم في حُكْم الأسد الابن، ولكن عون (الجنرال) ومن أجْل الفوز بمنصب رئاسة جمهورية لبنان اغتنم فترة التشاور اللبناني - السوري - الإيراني في هذا الأمر ولم يبدأ قولاً إعادة النظر في موقفه من النظام السوري - الإيراني، وإنما بات وكما لو أنه من الذين كانوا ضالين واهتدوا.
وقبْل الرئيس عون الذي بايع النظام السوري وبأكثر مما كان يتوقعه منه رئيس النظام بشَّار الأسد، كان سعد الدين الحريري ولضرورة تيسير أمر ترؤسه الحكومة ضغط على مشاعره الشخصية واقتناعه بالدور الأسدي في اغتيال والده وزار دمشق، وكانت تلك الصورة التذكارية له في ديوان الرئاسة جنباً إلى جنب مع الرئيس بشَّار الأسد.
في تبرير كل منهما، الرئيس عون وسعد الدين الحريري، لما قاما به أن ذلك من أجْل فسحة استقرار للبنان يعالج كل منهما شؤون الناس وشجونهم. تَحقق ذلك أم لم يتحقق، وأثمر تبادل الوقفات بين الرئيس ميشال عون والرئيس سعد الدين الحريري أم لم يثمر؟
قد تكون الإجابة الواقعية عن ذلك، أن هذا الاسترضاء من جانب كل منهما أبعد ما ربما أن يرمي لبنان في وضع كالذي يعيشه منذ سنتيْن، أي إرجاء المحنة وليس طي صفحة إمكانية حدوثها.
ما نقصده من كلامنا هذا هو أن الضرورة لها أحكام، وأن إعادة النظر في موقف هو نوع من مفردات العمل السياسي. وهذه الإعادة هي المطلوب الأخذ بها من جانب الرجل الأول في الدولة، عندما تكون هنالك ضرورة من شأن الأخذ بمقتضياتها تقليص نسبة الضرر.
زيادة في التوضيح، يجوز القول إن كلاماً يقوله الرئيس في حق المواقف السياسية والوقفات الإنقاذية من جانب دول مجلس التعاون الخليجي، وبشكل خاص من السعودية وبلغت أعلى درجاتها في عهود الملك فهد والملك عبد الله - رحمة الله عليهما - وفي عهد الملك سلمان - أدام الله صبره على بعض السلوكيات اللبنانية غير المنطقية أصلاً - من شأنه أن يجعل هامش الأزمة الراهنة يتقلص بالتدرج. ألم يحدث أن النظام الأسدي تناسى أو تجاهل لا فرق المواقف الجنرالية العونية. وما دام بادر عون سابقاً وفعل، فإنه قادر أن يهدي اللبنانيين إطلالة تلفزيونية تريحهم ويقول فيها من الكلام الطيب ما من شأنه مسح حالة متقدمة من العتب السعودي والخليجي، بل من أكثرية الشعب اللبناني، الذين يكابدون التخبط العشوائي في إدارة شؤون وطنهم. وأما حليف الجنرال وبشخص الأمين العام لـ«حزب الله» حسن نصر الله، فإنه مُطالَب بموقف ضميري إلى جانب الموقف الوطني، وبما هو متاح له من حرية التعبير. موقف يترجم من خلاله مشاعر الناس وأبناء الطائفة مثل غيرهم بأن هذا النهج العدائي ضد دول الخليج، هو تهديد لمصالح اللبنانيين ولقمة عيشهم إلى جانب مستقبل أجيالهم.
وعندما يأمل المرء مثل حالنا من رئيس بلده ومن حليفه الذي يتقاسم معه ولاية الأمر ذلك، فلأن ما يفصل الوطن عن التهالك خطوات، وتلك مسؤولية يتحملها رئيس الدولة ومَن يظلل رئاسته ولذا يزداد ساعده اشتداداً. كما إن ذلك واجب تقع عليه المعالجة ما دامت هنالك سابقة هو فاعلها.
وإذا كان الرئيس عون مثقلاً بديون لحليفه، فإن ذلك لا يمنع من أن يقول ما معناه للحليف، إنه أعطاه على مدى خمس سنوات الكثير. فقد ظلَّله مارونياً، ولولا هذه المظلة لما كان ربما للحليف أن يواصل الصمود وتسديد ديون مستحقة عليه للنظام السوري من خلال إبقاء بوابات الحدود مفتوحة، لا رقيب ولا حسيب عليها في الدولة والقتال في سوريا ضد سوريين، وهذا مردوده ذات يوم قاتم على أبناء الطائفة. كما لولا هذه المظلة لما كان لبنان يبقى طوال الأزمة الإيرانية مع المجتمع الدولي ورقة برسم الضغط والمساومة في يد النظام الإيراني. وبمعنى آخر، إن لبنان ليس فقط أعطى... وإنما ضحَّى.
لقد استبشر اللبنانيون خيراً عندما تشكلت الحكومة على أساس أن تكون خاتمة مطاف مرحلة التعذيب الاجتماعي الممنهج الذي تمارسه السلطة الفئوية الثنائية بجناحيْها حزب الرئيس الأول و«حزب الله». ثم إذا بهم أمام معضلة كان في استطاعة مسببها الإعلامي جورج قرداحي أن يخفف من وطأتها بإطلالة لبنانية الجوهر على الوطن الذي يكابد، واعتذاره من الخليجيين الذين لا يستحقون رميهم بغير عبارات الامتنان على سنوات من العيش معهم يبدد فيها رؤاه السابقة، وعلى نحو ما فعل الجنرال عون من أجْل أن يترأس. والإطلالة ما زالت موجبة، سواء استبقت إطلالة الرئيس التي يأملها اللبناني منه أم جاءت تمهد لها. ولا يلغيها أن زميلنا الإعلامي بات حائزاً نجومية سياسية إلى جانب نجوميته الإعلامية التلفزيونية التي وظّفها بطريقة عادت بالأذى على كل لبنان، قبل أن يلحقه الأذى شخصياً.
وليس هنالك معتذر تضاءل شأنه إذا هو في لحظة مخاطر حدثت بسبب قول أو فِعْل بادر سريعاً وكما يبادر رجال الإطفاء، وطيَّب الخواطر وهدَّأ المشاعر بما يرضي النفوس... إنما بغير تخريجة وزير الخارجية عبد الله أبو حبيب الذي ينطبق على كلام قاله المثل الشعبي اللبناني الذي يتلخص بما معناه جاء لعلاج التواء في الساق فكَسَره، والمثل الشعبي الآخر «جاء ليُكحِّل العين فعماها»... والله الغافر الذنوب.