بقلم : فـــؤاد مطـــر
قبل معرض الرياض الدولي للكتاب في أحدث دوراته الأكثر ازدهاراً، كانت معارض الكتاب المتنقلة من عاصمة أو مدينة عربية إلى أُخرى عبارة عن مناسبة، شأنها شأن مناسبات موسمية يتم إحياؤها من جانب بعض الدول العربية ترويجاً للسياحة. وكانت هذه المعارض فرصة لدور النشر وبالذات المزدهر منها على مدى نصف قرن في لبنان ومصر لتسويق إنتاجها النشري بما يعوض تكاليف الطباعة وحقوق التأليف. وعلى هامش هذا المعرض في الشارقة أو الرباط أو القاهرة أو الخرطوم أو عمان أو أبوظبي أو أربيل تتم فعاليات ثقافية خجولة في معظمها بهدف إضفاء لمسة غير تجارية على المعرض.
وإلى ذلك كانت معظم دور النشر المشاركة تتأفف سلفاً من تكلفة المشاركة في المعرض، التي تتطلب السفر وأجور شحن صناديق مؤلفات قد يباع بعضها، وكذلك رسم المكان المخصص في مبنى المعرض المقام للمشاركين من دور النشر.
بعض الذي أصاب لبنان من سياسات وسياسيين تسبب في تعطيل المصالح عموماً ومنها قطاع النشر، باتت دور النشر تعيش حالة هبوط سريع في الإنتاج ولم تعد المقولة المتصلة بهذا الشأن «بيروت تطبع والعرب يقرأون» على حالها الراسخ في الذاكرة.
جاء معرض الرياض للكتاب في أحدث دوراته قبل أسبوعيْن ليس فقط مجرد استضافة تقليدية للظاهرة، كما استضافة العواصم العربية للقمة الدورية، وإنما جاء يشكِّل الملمح الثقافي والفكري في فضاء اندفاعة التحديث والتصوين والتنقية للدولة والمجتمع التي بدأها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز ضمن رؤية 2030 الرائدة، والتي يرنو أجيال إلى التظلل بدءاً من عشر سنين آتية في أفيائها. ومن هنا فإنه ليس مجرد دورة من الدورات المتنقلة وإنما هو حدث بأكثر من وجه. أبرز هذه الوجوه أن الكتاب العربي إلى انتعاش ما دام الاستنهاض لدور النشر انطلق من معرض الرياض. كما هنالك الوجه البارز هو الآخر والمتمثل في تنشيط الشريان الثقافي الذي اشتهر به العراق والذي كاد يتيبس بعدما حل السلوك الميليشياوي محل الفكر والثقافة تأليفاً وشعراً في العراق. ومن هنا فإن الخطوة اللافتة من جانب وزير الثقافة السعودي الأمير بدر بن فرحان ليكون العراق ضيف الدورة التي اتسمت بأنها استثنائية بمعظم الأجواء والفعاليات، متمثلاً بوزير الثقافة حسن ناظم هي نوع من التوضيح في طيات المعاني إلى أن الأمة العربية، التي افتقدت الحضور السياسي التعاوني لمصلحة التضامن العربي المشترَك من جانب العراق، افتقدت في الوقت نفسه إشراقة العراق الشعر والأدب والبحث والرواية والصوت الرخيم والتراث الأجدادي، وأن رافداً من المسؤولية القومية للمملكة العربية السعودية ذات الثوابت وذات الحرص والنخوة، هو استنهاض بداية ومتابعة وتثبيت للعراق الثقافة والشعر والأدب والنقد والتحليل المجتمعي الذي كان الدكتور علي الوردي رافع رايته الخفاقة.
وهكذا نرى أن الحدث الثقافي الحاضن للعراق يأخذ مكانه إلى جانب الحدث السياسي المتمثل باستقبال رئيس الحكومة مصطفى الكاظمي عند زيارته الأولى إلى الرياض، وهو استقبال لم يسبق أن ناله زائر عربي بهذا النوع من الترحيب من قبل. وهذا الاستقبال المتميز لا ينحصر في مقتضيات البروتوكول، وإنما سبق معرض الرياض ورمزيته العراقية، من حيث التأكيد من جانب المملكة على أن يشق العراق التواق إلى محيطه العربي الطريق وقد وجد مَن يؤازره معنوياً ثقافياً بعد المؤازرة السياسية والاقتصادية.
هذه الروح المقرونة بالأريحية لا يبدو أنها حالة عابرة من جانب المملكة العربية السعودية. ودائماً تكون الوقفة لحظة فرح بدءاً بالملعب الذي أهداه خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز إلى البصراويين. وكأنما أراد الملك القول للجيل الشاب في البصرة: اطمئنوا وحاذروا الإصغاء إلى الطروحات الميليشياوية ومارسوا الرياضات على أنواعها، بدل التعاطي مع السلاح وحصِّنوا بلدكم بالعقل المستنير وليس بالتمذهب الذي نهايته فواجع.
الثقافة أدباً وشعراً وفناً تشكيلياً وتراثيات شعبية بعد معرض الرياض الدولي للكتاب الذي كان العراق ضيفه وكان الحضور جامعاً لكل أنواع الإبداعات، هي غيرها ولا ريب في ذلك بعد المعرض، كما باتت السياسة عموماً بعد الزيارة المتميزة للرئيس الكاظمي وكما تعمقت المشاعر بعد هدية الملعب للبصراويين وبعد فتح المعابر التي تنفع الجميع. هذا أصلاً كان حاصلاً قبْل أن يتصدع البنيان الأخوي الخليجي بفعل الوزر الصدَّامي، ولكن بالنوايا الطيبة يمكن للبنيان استعادة ماضيه الجميل.
عسى ولعل تصطلح الحال في لبنان الذي ضل سبيله العربي، وبحيث يلقى على الصعيد الثقافي والإبداعي ما يستحقه من التكريم وعلى نحو ما حظي به العراق، وتجدنا لا نستبعد بعض التأمل وكثير الأمل من جانب الأمير بدر بما نتمنى حدوثه ويكون ضيف شرف الدورة المقبلة لمعرض الرياض الذي سيستمر بمثابة حدث يقتدي به منظمو المعارض في العالم العربي، وبالذات المثلث المغاربي الجزائري والليبي والتونسي الذي لا يستقر على حال، أو بعد أن يكون اهتدى السودان وهدأ الغليان في أحوال الدول الثلاث وتلاشى الارتباك في رتق مقومات استقرارها. والله الرحيم.