بقلم : فـــؤاد مطـــر
حقق الانتداب الفرنسي للمسيحيين في لبنان محاصصة الطوائف على أفضل ما تكون عليه المحاصصة التي حلت محلها في مرحلة لبنان المستقل المحاصصة السيائفية بمعنى السياسية الطائفية، التي يعاني منها لبنان أكثر المعاناة مرارة.
ولأن ألفرد نقاش كاتب مقالات بالفرنسية لصحيفتيْن كانتا تصدران في مصر الملكية يطالب فيها بتحرير لبنان أيام المتصرفية من السلطنة العثمانية وتأمين مرفأ في بلدة جونيه الساحلية، الأمر الذي حمل السلطنة على الحُكْم عليه بالإعدام، فإن الانتداب الفرنسي رأى فيه أنه الماروني المناسب لترئيسه خلفاً لإميل إده، بداية رئيساً للدولة ثم رئيساً للجمهورية ولمدة سنتيْن من 24 أكتوبر (تشرين الأول) 1941 إلى 18 مارس (آذار) 1943. لم تدم رئاسته كما الحال مع الخلَف إميل إده الذي ترأس لخمس سنوات، لكن سنتيْه كانتا مستقرتيْن نسبياً وترك رصيده أثراً طيباً لدى الرئيس الجنرال الأول فؤاد شهاب، حيث إنه بعد الرئاسة أوكل إليه تمثيله في مناسبات إلى جانب مواصلة كتابة المقالات باللغة الفرنسية.
جاءت المحاصصة الانتدابية تعطي الكاثوليكية اللبنانية في شخص أيوب تابت المنصب الأول في الدولة مع أنه بروتستاني المذهب، لكنه لدواع لم يفصح عنها متعصب للكاثوليكية، سلموه الرئاسة لأنه وهو مغترب في الولايات المتحدة كان ينشط في أوساط الاغتراب اللبناني لمصلحة فرنسا ضد السلطنة العثمانية. وحيث إن الزعامات الإسلامية وبالذات آل سلام وآل بيهم كانت عثمانية الهوى، فإن هذه الزعامات لم ترحب به على النحو الذي يريح رئاسته التي دامت أربعة أشهر (من 18 مارس/ آذار إلى 21 يوليو/ تموز 1943)، وكان بذلك أول رئيس في تاريخ لبنان يشغل المنصب أربعة أشهر خلافاً للمألوف، وهو ست سنوات في الحد الأقصى، وسنتيْن في الحد الأدنى. لكن رغم هذه المدة القصيرة أنجز البروتستانيُ المذهب الكاثوليكي العصبية ما أمكنه إنجازه مستحقاً بذلك الثناء. ما كان يحتاجه لبنان وبالذات عاصمته بيروت الحزينة زمنذاك يحتاجه لبنان الحاضر، وبالذات عاصمته، كما أحزانها وكآبتها في زمن «كورونا» على مدى ثلاث سنوات عجفتْها التحالفات والأحزاب والحركات والتيارات أسوأ عجْف. عسى ولعل الحكومة الميقاتية التي جاءت ولادتها قيصرية، أو فلنقل بمعجزة دنيوية تنجز هي الأُخرى، وبالذات من جانب وزير الداخلية المأمول منه خير إدارة لأكثر الحقائب اتصالاً بالناس. ما فعله أيوب تابت أن له الفضل في منْع تبويل الناس على الجدران يوم تولى وزارة الداخلية والصحة، كما منع عادة تزمير السيارات من دون أسباب موجبة، وكذلك شُرب القهوة في الدوائر الرسمية. لعل وزير الداخلية الجديد القاضي باسم المولوي، يقرر المنع نفسه، ويضيف إليه تنظيم سير الدراجات النارية، فلا تستمر على الفلتان التي هي عليه، خصوصاً بعدما باتت بالآلاف، وتفعيل قوانين منْع التدخين والشيشة في الأماكن والقاعات المغلقة، خصوصاً أن الحرب على «الكورونا» ما زالت مفتوحة بتنوع نسلها. وإلى ذلك وضْع حد لظاهرة الصور والأعلام تملأ شوارع العاصمة وطريق المطار، وبحيث لا يعود كل من يخطر على باله تعليق يافطة أو رفْع علم أو الإكثار من صور ولوحات تحمل عبارات تعبوية، يتصرف من دون استئذان السُلطة الرسمية. وإلى ذلك وضْع محطات لحافلات الركاب (الأوتوبيسات) بحيث تتوقف الحافلة عند المحطة المخصصة لها، وليس حيث يريد سائقها التوقف، وكذلك تثبيت القاعدة التي من شأنها تنظيم الحركة في المدينة بحيث يكون اعتماد يوم لمفرد رقم السيارات العمومية والخاصة على السواء، ويوم للمزدوج من الأرقام. وهذا غيض من فيض ولا ينفي عدم الأخذ به أن الظروف صعبة. لقد فعلها أيوب تابت قبْل 78 سنة، بل حتى فعلها الانقلابي السوري الأول الزعيم حسني الزعيم، عندما أصدر أوامر مماثلة، وأضاف إليها منْع الناس من التجول في الشوارع وهم يرتدون البيجاما. وها هو مصطفى الكاظمي رئيس الحكومة العراقية الواثق الخطى الرافض النوم على ضيم، يواصل بلا كلل تصحيح ما خربه الآخرون، لكي يعود العراق منارة.
كان أيوب تابت رئيس الأربعة أشهر نظيف الكف وقريباً من الناس ومحباً لجلسات الزجل ورحل وقد سجل تاريخ الرئاسة اللبنانية أن البروتستانت وليس الأرثوذوكس والموارنة والكاثوليك أخذوا نصيبهم من الترؤس. بل إن الأرثوذوكس الطائفة التي كان راعيها المطران إلياس عودة مثل البطريرك الماروني بشارة الراعي، يطلقان التنبيه تلو التنبيه، والتحذير طوال خمس سنوات من الحكم المعقودة ألويته للتحالف الأول، وربما الأخير من نوعه وموجباته بين ركن شيعي لبناني وركن ماروني لبناني، مما أحدثه هذا التحالف من تآكل للبنان الصيغة وأوجاع للناس وندوب للسمعة... بل إن الأرثوذوكس ذاقوا طعم الرئاسة للمرة الثانية بعد الأُولى التي تولاها شارل دباس، ذلك أنه تم تعيين بترو طراد رئيساً لبضعة أسابيع (من 22 يوليو إلى 21 سبتمبر/ أيلول 1943)، وكان تعيينه القصير المدة هذا مسك الختام أو نقيض المسك لحقبة احتار اللبنانيون في أمورهم كما حالهم في هذه الأيام، لتبدأ مرحلة لبنان المستقل بميثاقه الوطني الذي بعدما بات الوطن في كامل شيخوخته الوقورة يحاول بعض المراهقين السياسيين، أو الذين هواهم التلاعب بالثوابت ومنها الثابت المضاف، اتفاق الطائف، رمي هذا التراث باقتراحات تغلب فيها الافتراءات على الموضوعية والحس الوطني.
قد يبدو تعيين الوجيه الأرثوذوكسي المحامي بترو طراد (الخطيب بالعربية الفصحى كما الدكتور سمير جعجع في الزمن العوني) رئيساً ولو لبضعة أسابيع بدا كأنما هي مكافأة له كونه طالبَ عام 1913 مع خمسة من أصدقائه المسيحيين بأن تكون سوريا بما فيها لبنان وفلسطين منطقة مستقلة عن العثمانيين يديرها الفرنسيون، كما قد يكون داعيها المستتر رسالة من سُلطة الانتداب، التي للمناسبة كانت أكثر رقياً ونزاهة ورحمة وتواضعاً من سُلطة بريمر في العراق الذي أمطره بوش الابن وتوني بلير ومن قبْل بوش الأب، أعتى أنواع العدوان، إلى الطائفة المارونية بأن لا تكون مستأثِرة، وأن شأن لبنان الماروني ليس أعلى درجة من شأن لبنان الأرثوذوكسي والكاثوليكي. نقول ذلك من باب الافتراض والقراءة في أفكار أصحاب المبادرات ليس إلا. لكن الأمور سارت على الأخذ بترتيبات أُخرى، وهي توزيع قسمة الاستقلال على الطوائف، وكما لو أن هذه السُلطة بيدر ولكل ما يستحقه من غلة هذا البيدر. ثم تنقضي عهود أحد عشر رئيساً (بشارة الخوري. كميل شمعون. فؤاد شهاب. شارل حلو. سليمان فرنجية. إلياس سركيس. أمين الجميل. إلياس الهراوي. إميل لحود. ميشال سليمان... فميشال عون)، والحال ليس على نحو ما من حق الوطن أن يكون عليه وحق الشعب أن ينعم بالطمأنينة والتطور، شأنه في ذلك شأن أوطان كثيرة خرجت من وطأة الاستعمار أو الانتداب أو الوصاية لتعوض طمأنينة فقدها الشعب. ثم تجد هذه الأوطان نفسها في محن أشد. وهذا ماثل أمامنا في لبنان وجارته سوريا على سبيل المثال لا الحصر.