بقلم : فـــؤاد مطـــر
لم تبقَ مرجعية دولية وإقليمية وأفريقية وعربية لم تُسدِ النصح بصيغة أو أُخرى لرئيس الحكومة الإثيوبية آبي أحمد، بأن يعالج موضوع تأثير «سد النهضة» على كل من مصر والسودان بالتي هي أهدأ وأعقل، وبحيث لا يكون تشغيل السد وفق الطموح الإثيوبي، وإنما وفق مراعاة واقع ملموس، ويتمثل في أن هذا الطموح سينعكس خراباً وجفافاً وفيضانات ستحدث في مناطق زراعية شاسعة في مصر والسودان. وليتصور رئيس الوزراء الإثيوبي أي حالة كارثية سيتسبب فيها ابتهاجه بتسويق الكهرباء التي سيولدها تشغيل السد والعوائد المجزية من هذا التسويق، لمائة وخمسين مليون مصري وسوداني تُصنف حكومة كل من الدولتيْن «سد النهضة» «التهديد الوجودي»، في حال تشغيله معزل عن التفاهم والتوافق على قاعدة مراعاة مصالح الجميع، وليس فقط ابتهاج طرف من المثلث النيلي هو الطرف الإثيوبي، أو بالأحرى زعامة يرنو إلى امتلاكها آبي أحمد.
قد نجد مَن يرى أن آبي أحمد يجد في بداية تشغيله للسد على نحو ما حدث في وقت انشغال دول العالم، كبيراتها وصغيراتها، بالأزمة الأوكرانية، أن الفرصة مواتية لكي يخطو خطوة التشغيل التي يحسب لها كثير التحسب الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، وكذلك الرئيس السوداني عبد الفتاح البرهان، باعتبار أن الدول الكبرى لن تكون مهتمة بغير الأزمة الأوكرانية التي قد تُسبب حرباً كونية. ثم إن الرئيسين المصري والسوداني لديهما من انشغالات البال ما يجعلهما يرجئان أي خطوة حاسمة مع إثيوبيا إلى ما بعد انحسار الحراكات الشعبية في السودان، التي ما زالت تتوالى، وتطالب المظاهرات بتسليم مقاليد السُلطة إلى المدنيين، وإلى ما بعد اطمئنان الحكم المصري إلى أن الأحوال الليبية المتشابكة سترسو على ما يطمئن المحروسة مصر، بحيث تقوم حكومة ليبية ترتبط بمصر بأفضل العلاقات، وتكون صاحبة العين الساهرة والقبضة الحاسمة تجاه أي محاولات انتقال الميليشيات الإسلاموية تسللاً إلى مصر. وانشغال البال المصري بالحالة الليبية لم يتوقف منذ تلك المناورة، والعرض العسكري على حدود مصر مع ليبيا قبل بضعة أشهر الذي حضره من بدايته إلى نهايته الرئيس عبد الفتاح السيسي، ثم ختمه بلقاء له صفة الرسالة إلى كثيرين يجب أن يهمهم الأمر، وبالذات الدولة التركية، بشيوخ قبائل وشخصيات سياسية ذات حضور لافت في المشهد السياسي الليبي، وإن كانت لم تأخذ فرصتها بعد. وبالنسبة إلى الرئيس عبد الفتاح البرهان، فإن انشغال البال الداخلي الذي لا يقتصر على مناطق الحدود التي أوجبت نوعاً من التحادث والتوافق في شأنها مع الرئيس آبي أحمد فيما موضوع تشغيل السد عالق، أوجزه صاحب الرقم الصعب في مجموعة الحكم العسكري الفريق محمد حمدان دقلو (حميدتي) بعبارة «السودان بلد تعبان ومضطرون للشحاذة رغم أنها مذلة»، أتبعها يوم الأربعاء 23 فبراير (شباط) 2022 بزيارة مباغتة إلى موسكو من الواضح أنها تتصل في الدرجة الأُولى بمضمون الشحاذة والتعب، كما ورد في عبارته، وكان أيضاً بتلك العبارة كمن يحنن قلوب الألوف من الشبان والشابات الذين ينزلون بين الحين والآخر إلى الميادين والشوارع، ويهتفون بسقوط الحكم العسكري من دون أن تستوقفهم حقيقة أساسية، وهي أنه إذا كان السودان «تعباناً ومضطراً للشحاذة»، في ظل حُكْم الفريق عبد الفتاح البرهان، فإنه لن يكون أقل تعباً في ظل حُكْم المدنيين، وهذه حال لبنان خير مثال على ذلك، حيث إن الأمر لم ولا ولن يقتصر على التعب وكذلك الشحاذة، ذلك أن لا استجابة لمد الأيدي لا من الصديق ولا من الحالم بمواطئ أقدام، باستثناء صناديق الإغاثة السعودية والمصرية والقطرية والكويتية والإماراتية والمغربية التي فيها من الدواء والغذاء ما يغيث المرضى الذين لا مال عندهم ولا طبابة لهم.
ليس بالأمر المستبعد أن البليّة السودانية ومثيلتها اللبنانية على نحو ما أوردنا قد تعصفان بإثيوبيا في حال مضى رجلها آبي أحمد، إلى نهاية المطاف، والتشغيل العملي للتوربين الثاني بعد التشغيل الأول الذي حدث يوم 20 فبراير الحالي (2022). في هذه الحال من المستبعد ألا تتخذ مصر خطوة رادعة. ونقول ذلك على أساس أن تشغيل التوربين الأول الذي يقوي من عزيمة آبي أحمد التي أضعفها بعض الشيء حربه على الخارجين عن سلطته في التيغراي، ينبه مصر والسودان لكنه لا يقلقهما إلى حد الرد بخطوة ما على ذلك. وإذا جازت المقارنة، فإن الغرض من تشغيل توربين آبي أحمد كان مثل مسيرة الأمين العام «حزب الله» حسن نصر الله، التي جاءت تسمية النتاج الحربي الأول له «حسان» (أحد قادة المقاومة حسان اللقيس، اغتيل يوم 4 ديسمبر/ كانون الأول 2013) الذي يُذكر اللبنانيين برئيس حكومتهم (حسان دياب) التي كثر العصف بلبنان في ظلها.
في أي حال كان الأمر مباغتاً في فترة زمنية متقاربة. حدثت المباغتة الحسانية وغير واضح حتى إشعار آخر ما إذا كانت ستذهب أبعد من معالجة حالة من الإحباط الأهلي في الوسط الشيعي اللبناني. وحدثت المباغتة الأحمدية المتمثلة بإصرار رئيس الوزراء الإثيوبي (آبي أحمد) على تشغيل التوربين الأول غير متوقف عند تحفظات الطرف المتضرر. اعتبر كم سيربح تسويقاً للكهرباء، ولم يعتبر كم ستتصحر أراضٍ في مصر، ويسقط مخلوقات من جراء العطش. قد يكون الارتباك الأميركي والأوروبي - الروسي في التعامل مع الأزمة الأوكرانية شجعه على ذلك. كما قد يكون هذا الارتباك حفز حسن نصر الله، على تطيير مسيّرته، وإرفاق ذلك بالمزيد من الوعيد. تلك لحظة عابرة في أزمات مصيرية تماماً مثل لحظة صحو في سماء ملبدة بالغيوم.
وفي علم الغيب ودرجة منسوب الحذر ما هو متوقع حدوثه بعد هذيْن المباغتتيْن. المباغتة الحسانية، وما يمكن أن يكون الرد عليها ما هو أكثر أذى. والمباغتة الأحمدية وما يمكن حدوثه على ضفاف النيل الخالد من النبع إلى المصب.
وأما المباغتة الحميدتية المتعلقة بزيارة الفريق محمد حمدان دقلو (حميدتي) إلى موسكو، فإنها ربما تتجاوز حالة التعب والعوز التي يعيشها السودان إلى ما قد ينبه الإدارة الأميركية إلى تداعيات ناشئة عن أسلوب تصقيع العلاقات مع العرب تصب مستقبلاً في مصلحة روسيا البوتينية... هذا في حال تجاوزت المباغتات - البوتينية. والله المعين.