بقلم: حسين شبكشي
استغللت الأجواء الإيجابية التي حلّت علينا بتخفيف القيود الاحترازية المتعلقة بجائحة «كوفيد – 19» وقمت بلقاء أحد الأصدقاء الذين لم تسمح الظروف المضطربة برؤيته منذ فترة ليست بالقليلة، ودار معه حديث مشوق عن أحداث الساعة جعلني أتمعن فيما قاله بتركيز وتعمق. بدأ الحديث عن الحالة الاقتصادية الحاصلة في العالم اليوم، وأهم ملامحها والمتمثلة في مشاهد رئيسية وهي: ارتفاع كبير في أداء أسواق المال حول العالم بسبب الحالة النفسية الإيجابية التي يستشعرها الناس عن قرب انفتاح الاقتصاد بعد زوال الجائحة وتبعاتها، وارتفاع أسعار النفط والغاز بشكل كبير بسبب ارتفاع معدلات الطلب بعد ركود ليس بالقصير نتاج الجائحة نفسها، وإنْ صاحبت هذا الارتفاع مخاوف مستحقة من حالة تضخم قد تصيب الاقتصاد العالمي وتكبح من جماح عودته من الركود.
هناك أيضاً حالة عنق الزجاجة الكبير المتعلق بتعطيل سلاسل الإمدادات حول العالم والتأخير الكبير في حركة السفن التجارية الناقلة للحاويات في أهم الموانئ الدولية، ما تسبب في تأخر وصول السلع والبضائع وبات يهدد التجارة لأهم موسم في السنة، وهو موسم الأعياد التقليدي الذي يحل في شهر ديسمبر (كانون الأول) المقبل.
للوهلة الأولى قد تبدو المسألة مجرد «حالة اقتصادية» بحتة ومجردة، ولكن بالمزيد من التركيز والتأمل سيتبين لنا أن الخاسر الأعظم مما يحصل حالياً هو الاقتصاد الصيني، الذي تأثر فعلاً وأعلنت نتائج أداء الربع الثالث من السنة الحالية لتظهر لنا أن هناك انخفاضاً حاداً في نسبة النمو المحققة، وذلك بالمقارنة بما كان متوقعاً ومعلناً.
بطبيعة الحال ومع زيادة أسعار النفط بشكل كبير، وهي السلعة التي تستوردها الصين بالكامل، كان من الطبيعي أن تزداد تكلفة الإنتاج، وبالتالي تقل العوائد، والتأخير المهول وغير المسبوق في سلاسل الإمدادات الحيوية هي أيضاً أصابت آلة الإنتاج الصينية بمصانعها ومعاملها بتراجع كبير في إيقاع ووتيرة الإنتاج وخطط التدفق النقدي المصاحب لها. وبالتالي من الممكن أن يكون كما يحدث الآن مشهداً خفياً وخلف الكواليس من مشاهد الحرب التجارية ضد الصين، وعليه من الممكن نظرياً توقع اختراق سعر برميل النفط حاجز المائة دولار إذا استمرت نفس الأسباب قائمة.
أما المشهد الثاني الذي استحوذ على حديثنا، فهو أهمية دور الدولة المدنية وضرورة الفصل بين السلطات. كان سبب فتح هذه النقطة المهمة تحديداً هو الأحداث المؤلمة والحزينة في كل من لبنان والعراق التي تقودها ميليشيات طائفية إرهابية خارجة عن القانون والدولة، تعترض على مؤسسات الدولة وأنظمتها وتهدد من يواجهها بالعنف والقتل. اعتراضات على مؤسسات القضاء والعدل والانتخابات لأنها لم «تناسب» خطابهم الطائفي قلباً وقالباً وباتت تهدد بشكل حقيقي السوية والاستدامة الجغرافية لهوية البلدين والسلم الأهلي بطبيعة الحال.
إننا نمر اليوم بمشاهد تشبه تماماً ما مر به العالم الغربي قبل مئات السنين، عندما كان الخطاب السياسي الأوحد حقاً حصرياً لمن يمثل الرب في الأرض إلى أن حسم الغرب موقفه من هذا الأمر بتأسيس دولة القانون بمنظومة واضحة الملامح فيها تحقيق عملي وفعلي للفصل بين السلطات ومراقبة شعبية لأدائها، وبالتالي لا يتحرك الشارع غضباً واعتراضاً بسبب فتوى دينية أو خطاب سياسي أو رأي عام.
الدولة المدنية بمؤسساتها وأدواتها تقنن الاعتراض والفوضى في أطر واضحة الملامح، وتخرج العوامل العاطفية مثل الخصوصية الدينية والطائفية والمذهبية من المعادلة المدنية لما فيها من استقطاب حاد للغاية، ويبقى السقف القانوني هو الذي يغطي الجميع دون استثناء. المشاهد الغوغائية لأنصار تنظيمات إرهابية وهم يجولون شوارع بيروت وبغداد مدججين بالأسلحة الرشاشة وراجمات الصواريخ المحمولة على الكتف تحت شعار المسيرات السلمية، هي مجاميع مجرمة تستدعي القبض عليها بتهمة الإخلال بالأمن ولا مكان لها في أي دولة محترمة حول العالم.
الحروب الاقتصادية هي أهم أوجه الحرب الباردة الجديدة في العالم اليوم، وقد تكون ذات تكلفة أعظم، وفي صناعات الأمم تبقى الدولة المدنية القائمة على دولة المؤسسات ومبدأ الفصل التام والكامل بين السلطات هي الخيار الأمثل كما علمتنا دروس التاريخ المليئة بالعبر لمن كانوا ومروا بحقول التجارب المريرة من قبل.