بقلم : د. محمود محيي الدين
مما سيُعين على تطوير العمل المناخي على أرض الواقع والوفاء بالتعهدات الدولية الملزمة، الاستفادة من أهل العلم من الباحثين والخبراء الذين تذخر بهم الجامعات ومراكز البحث. فلم يُرشد الناسَ ابتداءً بالكوارث المناخية المحدقة بهم إلا دراساتُ العلماء التي حذّرت مبكراً من استحالة استمرار انتهاك الطبيعة، التي تؤوي الناس، على هذا النحو الجائر.
فقد قدم العلماء الدلائل على مخاطر تجاهل آثار الانبعاثات الضارة بالمناخ والبيئة، وأن الطبيعة بما يجري فيها من زيادة حدة الفيضانات والأعاصير وانتشار حرائق الغابات وأزمات التصحر والجفاف بضحايا من البشر وخسائر في الممتلكات، وأضاع العالم بتزكية نفر من المنتفعين بالأوضاع القائمة عقوداً طويلة دون اتخاذ إجراءات حاسمة بين متجاهل ومنكر، وعندما تبين الخطر للعيان سادت حالات الارتباك المعتادة في مواجهة الأزمات التي لم يحسن التوقي منها، واستحال الارتباك إلى فوضى مع مشكلات في إدارة التحول خصوصاً في ملفات الطاقة وتأمين الوقود التي استفحلت مع الأزمة الأوكرانية الأخيرة. ولم تكن هذه الحالة الأولى طبعاً التي يدفع فيها ثمن الأزمات البريءُ قبل المذنب، ولن تكون الأخيرة.
وكأن الطبيعة تستصرخ الناس لوقف تخريبها منذرةً بكوارث أكبر تلحق بأسباب الحياة والمعيشة إذا لم تتخذ إجراءات عاجلة. ومن أهم هذه الإجراءات ما يلزم اتّباعه لتخفيض درجة حرارة الأرض بألا تتجاوز 1.5 درجة مئوية عمّا كانت عليه مع بداية الثورة الصناعية. ومن المعلوم أن اتفاق باريس بشأن المناخ الذي أبرمته حكومات العالم قد اكتفى بألا تتجاوز هذه الزيادة درجتين مئويتين، ولكن الدراسات العلمية الأحدث ذهبت إلى أن هذا يعد مخاطرة كبرى، خصوصاً مع الارتفاعات المتزايدة لدرجة حرارة الأرض لتصل بالفعل إلى نحو 1.1 درجة مئوية عمّا كانت عليه قبل الثورة الصناعية.
ومن الجدير بالذكر أن التعهدات المقدَّمة من الدول إلى سجلات الأمم المتحدة من شأنها أن ترفع درجة حرارة الأرض إلى مستويات خطيرة بزيادة قدرها 2.7 درجة مئوية، وأن ما أُعلن من وعود جديدة في جلاسجو في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي لإنقاذ ما يمكن إنقاذه في شهر نوفمبر الماضي سيصل إلى تخفيض لن يتجاوز 1.8 درجة مئوية، هذا إذا ما تحققت الوعود والتزم أصحابها بالوفاء بها، وكالمعتاد يقل الوفاء بالعهد في غياب الشفافية، فمن أَمِن العقوبة أساء العمل واستمرأ في غيّه بوعود أخرى كسابقاتها.
وقد عمت الشكوى من نقص المعايير التي يمكن الاحتكام إليها في التقييم والمقارنة وانتشرت ظاهرة ما يُعرف «بالغسل الأخضر» بادّعاء شركات ومؤسسات مالية وجهات أخرى بالتزامها التعهدات المناخية ثم يتبين اختراقها لهذه التعهدات. فعلى سبيل المثال نشرت صحيفة «الفاينانشيال تايمز» اللندنية أن أكثر من 2900 صندوق استثماري حول العالم يدير أصولاً مالية تقدَّر بنحو 2.7 تريليون دولار. وأن معيار جذب هذه الأصول المالية هو أن تتحرى قواعد الاستثمار المؤثر إيجابياً على البيئة والمجتمع فيما يُعرف اختصاراً بحروف «إي إس جي» باللغة الإنجليزية في إشارة إلى التزامها الاعتبارات البيئية والاجتماعية فضلاً عن الحوكمة. وقد شهدت تعبئة الأموال في هذه المجالات طفرات مع إعلان كثير من هذه الصناديق توافقها أيضاً مع أولويات العمل المناخي والاستدامة. ومع زيادة الإقبال على هذه الاستثمارات وإدارة الأصول المالية ازدادت مكاتب الاستشارة العاملة في التصنيف لترتيب أهمية وفرص الاستثمارات المتاحة حول العالم وجدارة صناديق الاستثمار العاملة في هذا المجال. ولكن يعيب مكاتب التصنيف الاستشارية هذه أن لكل منها منهجاً مستقلاً وأساليب مختلفة للتقييم بما يعقِّد من عمليات المقارنة، فمن الممكن أن يصنَّف أصل مالي أو استثمار في مشروع تصنيفاً عالياً وفقاً لتصنيف أحد المكاتب الاستشارية ويخفق في أخرى بما يضلل المستثمرين ويصيب عموم الناس بالحيرة أيُّ الصناديق أفضل أداءً. كما تشير دراسة من خبراء مدرسة سلون للإدارة بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا إلى أن هذه التضاربات والاختلافات في أسس التقييم والتصنيف من شأنها أن تقف حجر عثرة في سبيل التطوير وتحسين الأداء في غياب اتفاق على طبيعة الإجراء الذي من شأنه الارتقاء بالأداء أو تخفيض المخاطر.
وقد جدَّ جديد فيما يتعلق بتعهدات القائمين على الشركات والمستثمرين والمدن والأقاليم بشأن تغيرات المناخ، وهي المجموعة التي تشكِّل مع غيرها من الأطراف غير الحكومية الزخم العملي والتنفيذي خارج الدوائر الحكومية المعنية الإطارَ الرسمي للتفاوض. فقد تشكلت مجموعة خبراء دولية من الأمم المتحدة لمتابعة التعهدات المناخية والتحقق منها، إدراكاً لأنه لا سبيل للتعامل مع هذه التحديات المتعلقة بالتعهدات وتنفيذها وجودة الاستثمار فيها إلا بالاتفاق على المفاهيم والمعايير والإجراءات واجبة الاتباع للتعامل تطبيقياً مع هذه الاستثمارات بالتعرف على مجالاتها ومدى توافقها مع ما تعلن عنه والإفصاح عنه.
وقد شكَّل مجموعةَ الخبراء الدولية الأمينُ العام للأمم المتحدة لمتابعة تعهدات الحياد الكربوني من المؤسسات والأطراف غير الرسمية. وضمت عدداً من الخبراء المرموقين في مجالات العمل المناخي والبيئي والتمويل والتنمية والرقابة، وتم اختيار وزيرة البيئة والمناخ السيدة كاثرين ماكينا، لرئاسة المجموعة التي ستُصدر توصياتها قبل نهاية هذا العام في المجالات الأربعة الآتية:
أولاً، مراجعة المعايير والمفاهيم المعمول بها في تحديد أهداف الحياد الكربوني وتخفيض الانبعاثات الضارة بالمناخ إلى الصفر.
ثانياً، الأسس المستند إليها في تحديد أهداف الحياد الكربوني وتخفيض الانبعاثات الضارة، وأساليب القياس والإفصاح.
ثالثاً، الخطوات العملية المتخَذة للتحقق من سلامة الإجراءات والحساب الدقيق لتحقيق الأهداف المعلنة عن الحياد الكربوني.
رابعاً، التعرف على خريطة الطريق لترجمة المعايير والأسس المتفق عليها لقواعد رقابية دولية ووطنية.
وحريٌّ بهذه المجموعة أن تستعين بالكفاءات والخبرات التي تتباهى بها الجامعات ومراكز البحث المرموقة ضماناً للاستفادة من مستجدات العلم واحترامه للحقائق والأدلة. ولعلنا ونحن بصدد الإعداد لقمة جديدة للمناخ في نوفمبر المقبل في شرم الشيخ نبني على إسهامات التجمعات العلمية في مساندة قمة جلاسجو السابقة. ومن هذه الإسهامات ما كان من شبكة الجامعات لقمة المناخ التي كانت برئاسة مشتركة لأستاذتين مرموقتين هما إميلي شوكبرغ بجامعة كمبريدج، وإليسا غيلبرت بكلية لندن الإمبراطورية، ومعهما لفيف معتبَر من خبراء وباحثي المعاهد والجامعات العلمية.
فإذا أُتيحت الفرصة لمؤسسات البحث العلمي تجدها لا تتوقف بفرقها المتخصصة عند تشخيص الداء لأسباب تدهور المناخ، بل تطوّر حلولاً عملية للتخفيف من الانبعاثات الضارة وتخفيض ملوثات البيئة والتكيف مع آثار ما لحق بالمناخ من أضرار. وأصبحت هناك بدائل تكنولوجية مجدية منخفضة التكلفة لمصادر الطاقة ووسائل النقل وتطوير التجمعات العمرانية والتوسع في التصنيع والزراعة، وجاء ذلك كله بفضل الاستثمار في رأس المال البشري وفي البحث العلمي وتعزيز تعاونه مع قطاعات الإنتاج والأعمال في تحويل التجارب المعملية إلى مشروعات واسعة النطاق، وتحقيق طفرات في جهود العمل وإرشاد صانع القرار السياسي ومتابعة المستجدات في مجالات الاستثمار والوفاء بالتعهدات خصوصاً في مجالات التكيف التي عانت من إهمال في السياسات والاستثمارات المطلوبة في إدارة المياه وتوفير الغذاء وحماية البنية الأساسية والمناطق الساحلية وبرامج التنمية الريفية والحضرية.
تتيح جهود تحقيق التنمية المستدامة، التي تتضمن التصدي لتغيرات المناخ، فرصاً كبرى لمشاركة دوائر العلم والبحث في تقديم الحلول العلمية وتطوير السياسات ورفع كفاءة المؤسسات التنفيذية من حيث تبدأ المشكلة وتنتهي على المستوى المحلي، وكذلك على مستوى الدولة والمستويين الإقليمي والعالمي. عندما تستقر هذه الحلول العلمية وتُمكَّن من القيام بدورها سيكون التمويل الهائل المطلوب لتحقيق أهداف التنمية وحماية البيئة والمناخ أكثر اطمئناناً على مساراته أن تَضل أو تُضلَّل.