بقلم : د. محمود محيي الدين
من أكثر الأمثال الشعبية انتشاراً في ثقافات الشرق والغرب ما جرى على الألسنة بألا تضع كل البيض في سلة واحدة، وهو ما ورد كنصيحة متواترة للرجل الحصيف في الرواية الشهيرة «دون كيشوت» للأديب الإسباني ميغيل دي ثيربانتس، التي صدرت منذ 4 قرون. وعلى خلاف ذلك تماماً، كتب الأديب الأميركي مارك توين بأن توزيع البيض في عدة سلال بعثرة للمال وتشتيت للاهتمام، والأحرى بالرجل الحكيم أن يضع البيض في سلة واحدة ثم يراقبها بعناية.
ما هي الأسباب وراء هذا التناقض؟ وما علاقة ذلك بالتنوع الاقتصادي، وهو من شأن الدول؟ دعونا نتفق في البداية أن هذه الأمثال الشعبية عن توزيع المخاطر تعاني مما يعانيه كثير من الأمثال الشعبية المتوارثة، من أنها تأتي حاملة لدلالة معينة فتجد عكسها في أخرى. ولترجع مثلاً لكتاب أحمد تيمور باشا عن الأمثال، فيصعب أن تجد مثلاً شعبياً نصح بأمر ليس له ما يقابله ويدحضه، ولهذا وجب أن توزن الأمور في سياقها ومحاملها المختلفة وأن يستعان دائماً بالدليل العملي والبرهان المنطقي.
وفي مجال تنويع المخاطر يقول المستثمر الأشهر وارين بافيت إن التنويع المتسع لمحفظة الاستثمار استراتيجية ليست سيئة لمن يدرك أنه لا دراية له بالسوق، فيشتري أسهماً من قطاعات متعددة أو يشتري مؤشراً عاماً من مؤشرات السوق، وفي هذا اعتراف عملي بعدم المعرفة بالسوق. وفي أطر الاحتراف والتخصص تضرب الأمثلة بقوائم الأثرياء التي تصدرها مجلة فوربس وغيرها لتشير إلى أن مصدر الثروات يأتي بالتركيز والانقطاع لنشاط واحد، وليس بالضرورة التنوع. وهو ما يذكره المستثمر الأميركي تشارلز منغر، شريك وارين بافيت، بأن الساعين للربح في وقت أقل عليهم بالتخصص بل التخصص الدقيق أيضاً، ولتنظر مثلاً لجراح عرف في مجاله بتخصص معين لا يباريه فيه أحد، فيلجأ إليه المرضى بمقابل مرتفع لخدمته المتخصصة التي اشتهر بها. لكن هذا الجراح معرض لقيد زمن العمل اليومي الذي لا يمكن تجاوزه، وهو معرض أيضاً لمخاطر المهنة والمنافسة إذا لم يستطع مواكبتها، فعليه أن يتحوط ضد هذه المخاطر باستثمار إيراداته في مجالات لا ترتبط مخاطرها بمخاطر عاملها، وعليه أن يستعين بمحترفين في الإدارة إذا أراد التوسع، ولو كان هذا التوسع في مجال عمله واحترافه.
بذكر مجال الطب والجراحة، عاصر كاتب هذه السطور نماذج كان يشار إليها بالبنان في مجال تخصصها، بنت شهرتها المستحقة في عيادات صغيرة تقوم على الخبرة والاجتهاد في العمل وعلى معاونين محدودي العدد من هيئة التمريض والمساعدين، فلما أرادوا استغلال شهرتهم بالتوسع ببناء مستشفيات كبرى باء بعضهم بفشل ذريع لسوء إدارتها، ومنهم من انطلق انطلاقات كبرى بمستشفياتهم الناجحة، بفضل إدارتها المحترفة. وبهذا تجد سيادة منطق بدهي بالاستعانة بمتخصصين آخرين في مجالاتهم كروافع أساسية يفشل من دونها العمل عند توسعه. ومن أفضل نصائح تشارلز منغر هي ألا تتبع نفس طريقه إذا أردت النجاح! فالخلاصة إذن أنه ليست هناك نظرية عامة أو نموذج شامل كامل يحتذى بلا تطويع أو تعديل. ففي مسالك التقدم تنوع لا يحتمل التقييد بنهج ربما نجح في زمن ولكنه يعاني من الفشل في زمن آخر، وربما توافقت طريقة عمل مع استعدادات وميول شخص بعينه وتنافرت مع آخر. وهذا كله لا يخالف في جوهره ثوابت النجاح من شروط التوكل لا التواكل وهي التعلم والاجتهاد وبذل الجهد والسعي طلباً للتوفيق، وإذا ما تصادف إنجاز نجاح ظاهر من دون هذه الشروط فهي استثناءات وإن تعددت حالاتها، فإذا طغت هذه الحالات الشاذة انتشاراً فهي من مظاهر الاضمحلال المؤدي لنهايات مفزعة إذا لم يتم تداركها مبكراً، فهكذا أنبأتنا سير الأمم الغابرة.
وإذا ما انتقلنا من أحوال الأفراد إلى شأن اقتصادات الدول، فنحن في عالم شديد التغير، وينبغي التحوط والاستعداد للمتغيرات المفاجئة ببدائل متنوعة. والتنوع الاقتصادي لا يتناقض مع المزايا النسبية واحترام قواعد التخصص وتقسيم العمل رفعاً للإنتاجية، وهو ما نوه به آدم سميث صاحب كتاب «ثروة الأمم» الصادر في عام 1776. وعلمنا من تجارب تقدم الأمم وتخلفها أيضاً أن التنمية المطردة تستلزم استثماراً مطرداً ونمواً متراكماً، وهو لا يعتمد بالضرورة على ثروات طبيعية، فمن أفضل التجارب المعاصرة للنمو والتنمية ما كان من شأن سنغافورة وكوريا الجنوبية الفقيرتين في منح الطبيعة، والغنيتين بتفوق رأس المال البشري والاستثمار في البنية الأساسية المتقدمة وعوامل التقدم الأخرى كحوكمة المؤسسات وانضباط السياسات العامة والتنسيق بينها والتوجه الرائد للاستثمار والتصدير، والتنوع الاقتصادي رغم محدودية الموارد.
وهناك اهتمام متزايد بالتنوع الاقتصادي لاعتبارين؛ الأول ارتباط التنوع الاقتصادي بارتفاع متوسط الدخول ونموها في البلدان الأقل دخلاً، ومتوسطة الدخل، ثم تنزع بعد حد معين من متوسطات الدخل الأكثر ارتفاعاً إلى التركز. والاعتبار الثاني لارتباط التنوع بالقدرة على التعامل مع الصدمات وتوسيع مصادر الدخل وإيرادات الموازنة في البلدان الأكثر اعتماداً على مصادر محدودة عرضة للتقلبات والصدمات، مثل السلع الأولية في البلدان الأفريقية والنفط في الدول الخليجية والسياحة في الجزر الصغيرة، بما يتطلب برامج للتحديث وإعادة الهيكلة ورسم أولويات الاستثمارات الجديدة على النحو الذي تراه في رؤى 2030. وقد صدر هذا الشهر تقرير يحدث المؤشر العالمي للتنوع الاقتصادي، الذي يعتمد على 3 مكونات لمدى تنوع كل من الناتج، والتجارة الدولية، والإيرادات الحكومية.
التقرير صادر عن كلية محمد بن راشد للإدارة الحكومية، بالتعاون مع خبراء من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية والأونكتاد، ومراجعة عدد من الخبراء المرموقين. وتم تدشينه في القمة العالمية للحكومات بدبي. ويرصد التقرير استمرار الولايات المتحدة الأميركية والصين وألمانيا في صدارة المؤشر. ويرصد التقرير أيضاً أثر جائحة «كورونا» السلبي على التنوع الاقتصادي ومدى الاعتماد على مرونة السياسات في التصدي لها، وما ولّدته هذه الصدمة الصحية من بوادر لمزيد من التنوع الاقتصادي لتقليل أثر الصدمات مستقبلاً.
وأفرد التقرير جانباً منه لتحليل أداء الدول المنتجة للسلع الرئيسية كالنفط والمنتجات الأولية الزراعية، ومدى تقلب نموها الاقتصادي وإيراداتها وتجارتها مع زيادة أوزان اعتمادها على هذه السلع. ويشير التقرير إلى أنه رغم كون الدول الأكثر اعتماداً على قطاع الاستخراج من الأغنى عالمياً فإن استراتيجيات التنوع الاقتصادي تحتل مقدمة اهتماماتها. وفي حين لم تشهد دول أفريقيا، جنوب الصحراء، المنتجة للسلع الأولية والاستخراجية تحسناً في مؤشرات التنوع الاقتصادي، فإن دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا شهدت تسارعاً في التنوع. وعلى مدار الفترة من 2010 حتى 2021 تجد بلدان مجلس التعاون الخليجي في تحسن نسبي، من خلال التحول الرقمي، وزيادة دور القطاع الخاص، والإصلاحات الهيكلية التي شملت سوق العمل، وزيادة الإيرادات العامة غير النفطية، خاصة من خلال ضرائب القيمة المضافة. وأوضحت الصدمات المتوالية منذ الجائحة وما تلاها من مربكات في سلاسل الإمداد وتقلبات أسعار السلع الأساسية والنفط، ثم ما كشفته حرب أوكرانيا من انكشاف الاقتصادات الأوروبية لاعتمادها بأكثر من 40 في المائة على الغاز الطبيعي الروسي، وإفراط اعتماد دول عربية وأفريقية على الحبوب والزيوت المستوردة من طرفي الحرب الأوكرانية - ما وصفه رئيس الوزراء الإيطالي السابق بإيجاز بأنه «لم يكن عدم التنوع من الحصافة». وإذا كان التنوع الاقتصادي بات بديهياً لما يتجاوز الاعتبارات الاقتصادية إلى أسس الاستقرار الاجتماعي والأمني والسياسي، فإن كيفية تحقيق هذا التنوع والتوصل إلى ما يمكن اعتباره المركز التوازني المثالي للتنوع الاقتصادي يتطلب استثماراً في البشر والبنية الأساسية وتمتين قطاعات الاقتصاد والمجتمع للصمود ضد الصدمات. ومع تحديات وفرص العصر الرقمي وما تفرضه الاستدامة من متطلبات وما تمنحه من إمكانات، تجد البلدان العربية ملزمة أكثر من أي وقت مضى بتحفيز الاستثمار دفعاً لتنافسيتها، وتخفيض تكاليف التجارة استيراداً وتصديراً، وتبني نظم شاملة للتحول الاقتصادي نحو منتجات وخدمات المستقبل، متحررة من قيود التراخي للإبقاء على منتجات تقليدية انصرف عنها الطلب المحلي والخارجي، وتفعيل كفاءة الأسواق وفاعلية الرقابة عليها. وفي هذا العالم سريع التغير، تتجلى عوائد الاستثمار في البشر والأفكار لتحقيق التقدم.