إنّ المستفيد الأوّل من تَشتت المعارضات هو الفريق الحاكم طبعاً، ولا مؤشرات إلى قُرب اتفاق هذه المعارضات على مشروع مشترك، ما يعني انّ تغيير الستاتيكو الحالي مرتبط بتطورات خارجية او حدث داخلي مفاجئ يعيد توحيد مكونات هذه المعارضة.
تختصر قصة او عبارة «كُلٌّ يُغَنِّي على لَيلاه» واقع وحال المعارضات اليوم، والمشكلة الأكبر انّ كل مكوِّن معارض يتمسّك بفكرته رافضاً النقاش أو الاقتراب من فكرة غيره، لأسباب مجهولة وأخرى معلومة طبعاً، ولكن في النتيجة المستفيد الأكبر من هذا التشرذم هو الأكثرية الحاكمة التي لا تشعر بأّي تهديد لوجودها في السلطة ودورها.
وفي هذا السياق يمكن التوقف أمام النماذج المعارضة الآتية:
النموذج الأوّل يعتبر انّ «حزب الله» هو جوهر المشكلة، وانّ اي معارضة لا يكون سقفها الحزب تبقى من دون المطلوب، ولكن هذا الطرح لا يأخذ في الاعتبار انّ مكونات حزبية أساسية ليست في وارد إحياء تجربة 14 آذار، وانّ المواجهة من موقع طائفي لا وطني لا تبدِّل شيئاً في المعادلة، وانّ مواجهة الحزب لا يجب ان تقتصر على الموقف كما كان الحال مع 14 آذار، إنما أن تتطور باتجاه مقاطعته والقطع معه نهائياً من أجل الضغط لتسوية وطنية، لأنّ تجربة 14 آذار في المواجهة كانت مخيبة للآمال. فإذا كانت مواجهة السلاح بالسلاح مرفوضة، فإنّ التعايش مع السلاح كان تجربة فاشلة ولمصلحة السلاح، وبالتالي لم يبق سوى القَطع معه تمهيداً لإعادة الوصل على أسس دولتية.
النموذج الثاني يعتبر انّ المشكلة تكمن في كل القوى السياسية على قاعدة «كلّن يعني كلّن»، وهذا النموذج لا يسعى إلى التغيير الذي يستحيل تحقيقه من دون التعاون مع القوى والكتَل الوازنة، فيما جلّ ما يسعى إليه هو التَمايز عن القوى السياسية برمّتها تحسيناً لوضعيته الانتخابية، ولكن واهِم من يعتقد انّ التغيير يمكن ان يحصل عن طريق فريق واحد في مجتمع تعددي، مثل لبنان.
النموذج الثالث يضع الانتخابات الرئاسية المبكرة كأولوية من دون ان يُشرك اللبنانيين في خطته لكيفية تحقيق هذا الهدف الذي يستحيل إسقاطه دستورياً، كما يستحيل إسقاطه بالقوة، والأسوأ من كل ذلك انّ أصحاب هذا النموذج لا يريدون الإصغاء إلى فكرة انه لو تمّ التسليم جدلاً بالقدرة على إسقاط رئيس الجمهورية، فإنّ الأكثرية النيابية الحالية قادرة إمّا على انتخاب بديل عنه من الفريق نفسه، او ربط نزاع في الفراغ الرئاسي، وكل الكلام عن انّ اللحظة السياسية لا تسمح للأكثرية بانتخاب رئيس من 8 آذار هو مجرد كلام نظري لا علاقة له بالواقع، ومن الواضح انّ كل همّ أصحاب هذا النموذج ربط النزاع مع فكرة تُظهِرهم وطنيين وعابرين للطوائف وخطوتهم مقّدرة لدى المسلمين.
النموذج الرابع يرى في الانتخابات النيابية المبكرة أولوية استناداً إلى 3 اعتبارات: مطلب انتفاضة 17 تشرين، الانزلاق نحو الأسوأ على كل المستويات، تجديد الأكثرية النيابية كمعبر للإنقاذ، ولكن هذا النموذج يواجه بـ4 تساؤلات أساسية أقلّه:
التساؤل الأول، ما الذي يضمن في حال إجراء الانتخابات انّ الأكثرية ستنتقل من مكان الى آخر؟ الناس وحدها الضمانة بطبيعة الحال، والمنطق يقول انه بعد كل ما حصل من انهيارات وكوارث وفقر وعوز وحصار وانسلاخ لبنان عن تاريخه ودوره ومحيطه لا يفترض ان تمنح الناس الثقة للفريق السياسي نفسه، بل يجب ان تحاسب وهي المسؤولة عن الخروج من هذا الواقع، كما انها عبّرت بصراحة عندما انتفضت في 17 تشرين، وفي أي دولة تحترم نفسها ومع تَبدّل المزاج العام والوصول إلى انسداد سياسي وعجز عن مواجهة الأزمات المتداخلة وطنياً ومالياً وسياسياً يجب الذهاب إلى انتخابات نيابية مبكرة، ومن ثم العوامل التي شكلت الأكثرية الحالية مطلع العهد وتحالفاته انتهت، فيما للتذكير فقط انّ الأكثرية الحالية هي أكثرية بـ5 مقاعد يكفي انتقالها من ضفة إلى أخرى لتُصبح الأكثرية في مكان آخر.
التساؤل الثاني، ما الذي يضمن، اذا استقال كلّ من «القوات» و«المستقبل» و«الاشتراكي»، ان تحصل الانتخابات النيابية طالما ان لا نصّ في الدستور يُلزِم المجلس النيابي على حَل نفسه؟ بمَعزل عن عدم قدرة مجلس النواب ان يستمر ميثاقياً في حال استقالت 3 كتل مسيحية وسنية ودرزية وازنة، إلّا انّ خطوة من هذا النوع لن تقف عند حدود الاستقالة، ولا يجب ذلك، بل يفترض ان تشكّل مدخلاً لإطلاق دينامية وطنية وشعبية كبرى تفرض إيقاعها وتُلزم الطرف الآخر بتقصير ولاية مجلس النواب او الجلوس حول طاولة حوار لحلّ المعضلة السيادية، فالاستقالة بهذا المعنى تكون الخطوة الأولى لا الأخيرة وفي سياق تصاعدي يبدأ من فَرض الانتخابات وإسقاط السلطة بالشارع، ولا ينتهي بالانتخابات وتجديد التسوية الوطنية.
التساؤل الثالث، ماذا عن قانون الانتخاب الذي يعارضه «المستقبل» و«الاشتراكي» وغيرهما؟ لا يوجد قانون للانتخاب يرضي كل الأطراف، والموافقة على القانون الحالي لم تحصل بقوة السلاح إنما في موافقة معظم الأطراف، ولم يتم التوصّل الى هذا القانون سوى بعد 10 سنوات من النقاش والانقسام والخلاف، والبحث عن قانون جديد يعني ليس فقط تطيير الانتخابات المبكرة، إنما ربط النزاع مع القانون بحد ذاته لتطيير الانتخابات في موعدها، لأنه من الصعوبة بمكان الاتفاق على قانون جديد، فيما يقتضي التذكير بالثلاثية الآتية: القانون النافذ هو الافضل تمثيلياً مقارنة مع القوانين المتعاقبة منذ العام 1992 إلى اليوم وكانت توصَف أساساً بالمحادل والبوسطات؛ المُستهدف من القوانين المتعاقبة كان المكوِّن المسيحي، والقانون الحالي أعاد تصحيح الخلل الميثاقي؛ وظيفة قانون الانتخاب تحقيق صحة التمثيل ربطاً بالنص الدستوري-الميثاقي الذي يتحدث عن الشراكة، وكل ما عدا ذلك يدخل في باب نسف الدستور والميثاق والتشبيح السياسي على غرار ما كان حاصلاً إبّان الوصاية السورية وما بعدها.
التساؤل الرابع، ماذا لو حصلت الانتخابات المبكرة وتشكلّت بموجبها أكثرية جديدة، فما الذي سيحصل بعدها؟ وما الذي تغيّر في المعادلة كي لا يتكرر سيناريو أكثرية 14 آذار الذي ووجِه بالسلاح وإقفال مجلس النواب والتعطيل، وبالتالي من يقول بعدم تكرار السيناريو نفسه؟
صحيح انّ 14 آذار ووجِهَت بالسلاح والتعطيل وإقفال مجلس النواب، لكنّ خطأ هذا الفريق او خطيئته انه ساوَم ورضَخ، فلم يكن يفترض به مثلاً ان يوافق على «اتفاق الدوحة» ولا ان يقبل بإشراك الفريق الآخر في الحكومة بعد خسارته انتخابات العام 2009، خصوصاً انّ السيّد حسن نصرالله كان قد تحدّى 14 آذار بأن تفوز لتحكم وحدها، وبالتالي إذا لم تتمكن 14 آذار عندما كانت الأكثرية لمصلحتها من توظيف هذه الأكثرية لمصلحة مشروع الدولة، فهذا يشكّل إدانة لتجربتها على هذا المستوى، واذا لم يتعلّم المرء من تجاربه السابقة فلن يستطيع ان يتقدم نحو الأمام والتغيير، والأكثرية الجديدة يجب ان تحكم لا ان تدخل في تسويات من هنا ومساومات من هناك من دون التوقف إطلاقاً أمام ثمن وكلفة وانعكاسات خطوة من هذا النوع، فضلاً عن انّ المرحلة اختلفت كليّاً في الداخل والخارج، ومشروع الفريق الآخر وصل إلى نهايته تقريباً، والناس تريد خلاص الوطن لا البقاء في دوامة الفشل نفسها، والأكثرية الجديدة ستستند إلى 3 عوامل أساسية: الانهيار الذي وصل إليه البلد على يد الفريق الحاكم، الدفع الشعبي للتغيير في إدارة الدولة، فَك الحصار الخارجي المرتبط بطبيعة السلطة، وعلاوة على كل ذلك فإنّ المدخل لأيّ تغيير هو صندوقة الانتخابات.
وقد تكون هذه المرحلة شبيهة إلى حد ما بالمرحلة التي أعقبت رحيل حافظ الأسد والخروج الإسرائيلي من لبنان وانتخابات العام 2000 لجهة البحث عن مساحات مشتركة بين قوى المعارضة، والمهم انّ النقاش انطلق وبقوة في ظل قناعة مُثلّثة يفترض ان تكون عامّة لدى هذه القوى: استمرار الوضع الحالي يعني استمرار الانزلاق نحو الأسوأ، التغيير لا يتحقق فئوياً إنما وطنياً، وضرورة الوصول إلى مساحة مشتركة ووضع خريطة لترجمتها، باعتبار انّ اللحظة أكثر من مواتية، ومن الخطيئة تفويتها.