الأزمة التي يعيشها لبنان اليوم لم تبدأ مع انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية في العام 2016، إنما بدأت مع الانقلاب على اتفاق الطائف في العام 1990، وأيّ معالجة للأزمة يجب أن تبدأ من جذورها لا من فروعها.
في العام 2005 تم الاتفاق على وَضع «زيح» حول المرحلة التي سبقت انتفاضة الاستقلال، وهي مرحلة إشكالية بامتياز، وذلك تلافياً لتبادل اللوم والاتهامات، وتدعيماً لاتفاق المكونات السيادية. لكنّ وضع «زيح» لا يعني إطلاقاً التجاهُل والقفز فوق الخطيئة الأصلية التي قضت بتغطية بقاء الجيش السوري في لبنان، كما تغطية احتفاظ «حزب الله» بسلاحه ودوره، وهذه الخطيئة هي عِلة العلل، والسبب الرئيس والأساس في الانهيار الحاصل اليوم.
فكل الخلل في علاقات لبنان الخارجية، العربية منها والغربية، مردّه إلى دور «حزب الله» وسلاحه، والدليل البيان الأخير لمجلس التعاون الخليجي الذي «أشاد بقرارات الدول التي صنّفت «حزب الله» كمنظمة إرهابية»، ولم يأتِ مثلاً على ذكر الرئيس ميشال عون. وهذا لا يعني تبرير تغطية الأخير للحزب، ودوره السلبي جداً بمنحه الغطاء المسيحي والنيابي والوزاري والرئاسي. لكنّ دور عون لا يختلف عن دور غيره ممّن تَبادَل الخدمات مع النظام السوري ومن ثم الحزب سعياً إلى السلطة، إلّا انّ المشكلة الأساس التي تستدعي العلاج من أجل وضع لبنان على السكة الصحيحة، ولمرة واحدة ونهائية، تتمثّل في الإشكالية المتعلقة بـ»حزب الله» وليس بفروعه وتفرعاته.
فهناك من يريد لأسباب معلومة ومجهولة حَصر المشكلة بالعهد الحالي، وتحميل المسيحيين مسؤولية ما آلت إليه أمور الوطن والمواطن، متغافلين انّ هذه المسؤولية تعود لِمَن تغاضى عن الوصاية السورية، وراهَن على لبننة «حزب الله» بتحالفٍ رباعي نقل مركز قرار السلطة من دمشق إلى حارة حريك.
والأخطر في مَن يصوِّر كل المشكلة بإسقاط الرئيس عون، انه لا يريد معالجة أصل المشكلة، وكأنه اعتاد على التعايش معها، أو انه يعتبرها عَصيّة على التغيير، فيُبعد من لم يتفق معه سلطوياً، لينتخب من يتفق معه على مستوى السلطة، وكل ذلك تحت سقف «حزب الله»، ولا يجب إغفال مسألة أساسية وهي انّ عون قطع نصف الطريق إلى القصر الجمهوري في اللحظة التي اعتبر فيها البعض انّ عدم انتخاب رئيس من 8 آذار يعني استمرار الفراغ الرئاسي، واستمرار هذا الفراغ قد يطيح اتفاق الطائف، وانّ هذا ما يريده «حزب الله»، فيما هذه المقاربة تَبريرية لا أكثر ولا أقل. وعلى هذا الأساس تَمّ التخلّي عن ترشيح الدكتور سمير جعجع، الذي كان كل الهدف منه هو الوصول إلى تسوية رئاسية تنتج رئيساً وسطياً بقاعدة سيادية.
فما يحاول طرحه البعض يَكمن في وضع المشكلة عند المسيحيين وتحييد «حزب الله»، كما تحييد نفسه عن المواجهة المطلوبة منه وطنياً، فيُخلي الساحة لصراع مسيحي-مسيحي. وبعد انتهاء هذا الصراع، يقطُف مكاسبه رئاسياً من دون اي تغيير في الإشكالية الحقيقية المتعلقة بـ»حزب الله» ودوره، وهي الإشكالية الأساسية بعد الخروج السوري من لبنان، وكل الانقسام يدور حولها، علماً انّ طاولات الحوار التي عقدت منذ العام 2006 كانت الغاية منها محاولة للاتفاق على استراتيجية دفاعية، ولكنها لم تفلح ولن تفلح باعتبار انّ هذه المشكلة إقليمية لا محلية.
فالرئيس عون يجب ان يرحل اليوم قبل الغد، لكنّ رحيله لن يحلّ الأزمة التي وصلت إلى مستويات كارثية، بل ستنتخب الأكثرية الحالية شخصية من نفس توجهات عون السياسية، وربما أسوأ. لأنّ الأزمة بدأت قبل انتخاب عون رئيساً وقبل توقيعه وثيقة «مار مخايل»، وستستمر فصولاً من بعده، فيما اللحظة الحالية أكثر من مواتية لمعالجة الأزمة في العمق والأساس، إن بعد الانهيار المتواصل فصولاً، أو بفِعل جهوزية الناس للتخلُّص ممّن أوصَل البلاد إلى هذا الدرك، أو بسبب المقاطعة الدولية للبنان التي لن تنتهي ما لم يتم إنهاء إمساك الدويلة بالدولة.
فاستمرار الرئيس عون في موقعه يشكل مشكلة بالتأكيد، إنما المشكلة الأكبر تكمن في استمرار دور «حزب الله». ومن يسعى لحلّ المشكلة الأولى من دون الثانية لا يبحث عن حلّ الأزمة اللبنانية الكيانية، إنما يبحث عن حل مشكلته السلطوية بانتخاب من يرتاح إليه في موقع رئاسة الجمهورية، وكلّ ذلك تحت سقف «حزب الله».
وما يحصل اليوم من قبل البعض على الساحة السياسية هو هروب من المواجهة الأساسية التي تتطلب من هذه القوى وضع خريطة طريق لمواجهة وطنية بدلاً من تحميل مسؤوليات ليست في محلها، أو نقل المواجهة من وطنية إلى مسيحية، وقد أكد مسار الأحداث منذ انتفاضة الرأي العام اللبناني في 17 تشرين 2019 انّ الناس لوحدها غير قادرة على قلب الطاولة من دون مؤازرة 3 كتل أساسية: الكتلة المسيحية مع «القوات اللبنانية»، والكتلة السنية مع تيار «المستقبل»، والكتلة الدرزية مع «الحزب التقدمي الإشتراكي»، أمّا الرأي العام، الذي كان سنداً أساسياً لهذه القوى في انتفاضة الاستقلال، فما زال هو نفسه على رغم كل خيباته وأضيفَ إليه شعب 17 تشرين الأول.
فالمطلوب خَلق دينامية وطنية تقود إلى تسوية وطنية جديدة تحت سقف الدستور، وإعادة تصحيح ما تمّ تَفويته في محطة اتفاق الطائف في العام 1990، وما تم تفويته لاحقاً مع انسحاب الجيش السوري من لبنان في العام 2005، وكل ما عدا ذلك هو مضيعة للوقت، واستمرار للنزف نفسه ونحو الأسوأ. وبالتالي، بدلاً من محاولة المزايدة على المسيحيين، وحَرف النقاش عن الهدف الوطني المطلوب، ومواصلة المراوحة ذاتها تحت سقف ضابط الإيقاع نفسه، لا حلّ للأزمة الحالية سوى بتقاطع الكتل الثلاث المشار إليها أعلاه على 3 خطوات أساسية:
الخطوة الأولى: الاستقالة من مجلس النواب فوراً ودفعة واحدة من أجل خلق دينامية وطنية وسياسية وشعبية تُسقط الستاتيكو الحالي، وتنقل الوضع السياسي إلى مكان آخر.
الخطوة الثانية: الاتفاق على برنامج لحلّ الأزمة اللبنانية الذي تأخر أكثر من 3 عقود بعد انتهاء الحرب اللبنانية، وهذا الاتفاق يجب ان يكون مثلّث الأضلع: الشق السيادي، والشق المؤسساتي، والشق الميثاقي المتعلق بالشراكة، خصوصاً انّ هناك من يتعاطى بخفّة مع الشقين الثاني والثالث، علماً انّ تعاطيه حتى مع الشق الأول يرتقي إلى الأقوال أكثر منه إلى الأفعال، وهو في مطلق الأحوال يفسِّر الطائف على طريقته، ويريد التعامل مع المسيحيين على طريقة المثالثة لا المناصفة، في ضربٍ لروحية الميثاق الوطني.
الخطوة الثالثة: رفض أي بحث مع الفريق الآخر قبل الجلوس إلى طاولة حوار لإنهاء الأزمة اللبنانية، بمعزل عن كلفة الأمر، لأنه لم يعد هناك أسوأ من الواقع الذي وصل إليه لبنان، فضلاً عن انّ العوامل المواتية لتسوية تاريخية باتت موجودة: الأزمة المالية الحادّة، وغياب القدرة على معالجتها تقنياً ومن دون الانفتاح على العالمين العربي والغربي، وغياب الثقة الشعبية التامة بالسلطة، والقرار الخارجي بفك العزلة عن لبنان بشروط محددة، وضعف الفريق المُمانع في المنطقة والداخل، ويكفي انّ مشروعه في لبنان، المتمثّل بالإمساك بالدولة، قد انهار.