بقلم : شارل جبور
عندما جال الموفد الرئاسي الفرنسي باتريك دوريل على القوى السياسية اللبنانية منذ أقل من أسبوعين، أكّد على مبدأ التلازم والترابط بين تأليف الحكومة، وبين انعقاد مؤتمر دعم لبنان، فماذا عدا مما بدا لأن تدعو باريس إلى انعقاد هذا المؤتمر الأربعاء المقبل وقبل تأليف الحكومة؟
عندما أعلنت باريس، عبر موفدها، على مبدأ التلازم بين تأليف الحكومة كشرط أساس من أجل الدعوة لمؤتمر يهدف إلى التشجيع على تقديم مساعدات للبنان، كانت ترمي إلى تشجيع القوى السياسية على تسريع تأليف الحكومة، فكانت رسالة حث من جهة، ورسالة تحذير من جهة أخرى، ففي حال عدم التأليف لن يُعقد المؤتمر، وفي حال عدم انعقاده سيكون لبنان في وضع كارثي لا يُحسد عليه إطلاقاً، ولكن فجأة تبدّل الموقف الفرنسي بفك الترابط بين التأليف وانعقاد المؤتمر، من دون ان تُعرف خلفية هذه الدعوة أو الأسباب الموجبة للفصل بين الأمرين، ولم يُعرف ما إذا كانت هذه الدعوة تصبّ في مصلحة حكومة تصريف الأعمال وتعويمها، كونها من سيواكب نتائج المؤتمر على أثر فقدان الأمل بتأليف حكومة جديدة، أم انّ المؤتمر سيربط المساعدات التي سيصار إلى إقرارها بالحكومة العتيدة من أجل تسريع تأليفها وتجاوز العِقَد التي ما زالت تؤخّر هذا التأليف؟
وقبل الحديث عن المفاعيل السياسية للمؤتمر، لا بدّ من الإشارة إلى الأجواء التي رافقت هذه الدعوة محلياً، من زاوية تعميم مناخات إيجابية بإمكانية تشكيل الحكومة قبل هذا المؤتمر، اي قبل يوم الأربعاء، وكأنّ الدعوة لم تحصل إلّا بعدما تأكّدت باريس من انّ العِقَد أُزيلت والحكومة في طريقها إلى الولادة لتواكب أعمال المؤتمر ونتائجه. ولكن، كيف يمكن ان تتأكّد الإليزيه من انّ الحكومة مطابقة للمواصفات الدولية المطلوبة، قبل ان تبصر هذه الحكومة النور؟ وهل أصبحت أولوية فرنسا تشكيل حكومة، اي حكومة، لتعيد تفعيل مبادرتها المجمّدة؟ وهل خطوتها منسّقة مع واشنطن والرياض، ام انّه ستسبق المؤتمر او تليه عقوبات جديدة تكون بمثابة رسالة ردّ على هذا المؤتمر على غرار العقوبات التي هبطت في عزّ اندفاعة الدكتور مصطفى أديب وأخيراً مع الرئيس الحريري؟ وهل تحاول تعبئة الوقت الضائع أميركياً قبل دخول الرئيس المنتخب بايدن إلى البيت الأبيض، أم انّها رسالة إلى الرئيس ترامب بتحييد لبنان الذي يحظى بمظلّة فرنسية ودولية، عن اي عمل عسكري قبل خروجه من البيت الأبيض؟ وهل الهدف من تجاوز شكل الحكومة والإصرار على عقد المؤتمر، بمعزل عن اي شيء، توجيه رسالة الى بايدن وغيره بأنّ لبنان ورقة فرنسية، وانّ اي حلّ للأزمة في بيروت يكون مدخله ومفتاحه باريس؟
ولأنّه لا يمكن ان تحصل أعجوبة بين ليلة وضحاها فتولد حكومة من مستقلّين اختصاصيين، فإنّ الحكومة المتوقعة ستكون حكومة محاصصة ولو مقنّعة، خصوصاً انّ النقاط الخلافية ما زالت نفسها، وأبرزها رفض العهد والثنائي الشيعي ان يسمّي الرئيس المكلّف الوزراء الشيعة والمسيحيين، والموقف الأخير لـ»حزب الله» على لسان الشيخ نعيم قاسم واضح جداً، بأنّه على الرئيس المكلّف التشاور مع الكتل النيابية كمعبر لنيل تشكيلته الثقة، كما انّ العهد ليس في وارد تطبيق المداورة إذا لم تبدأ من وزارة المالية، وليس في وارد أيضاً التنازل عن حق التسمية على المستوى المبدئي أولاً، ولأنّ الحكومة العتيدة قد تكون آخر حكومات العهد ثانياً، وبالتالي لن يكون في موقع المتساهل، بل المتشدّد إلى أقصى الحدود.
وهناك من يقول انّ الرئيس سعد الحريري ليس في وارد الاعتذار، وانّه لن يكتفي بتقديم تشكيلة تُرفض فوراً، من أجل تعزيز صورته أمام الرأي العام بأنّه يشكّل حكومة من خارج تأثير الأكثرية، وتؤدي بالمقابل إلى مزيد من تعكير علاقته مع هذه الأكثرية، إنما يسعى إلى إحراز تقدِّم باتجاهين: تقديم تشكيلة مُتفق عليها مع الأكثرية الحاكمة، ولكنها تشكّل بأسمائها صدمة إيجابية لدى الرأي العام، على رغم إدراكه صعوبة تحقيق رزمة الإصلاحات المطلوبة مع الفريق الحاكم، غير انّها تبقى أفضل الممكن وأفضل من الفراغ القائم وأفضل الخيارات، بدلاً من السياسة الانتظارية التي قد تكون من دون سقف زمني، إذا ما رُبطت مع الإدارة الجديدة للرئيس الأميركي الجديد، فيدخل بذلك السرايا الحكومية ويصبح في موقع القرار والمبادرة، ويستطيع، باعتقاده، ان يقدِّم شيئاً إضافياً لفرملة الأزمة المالية، على نسق البحصة التي تسند الخابية.
والاتجاه الثاني الذي قيل انّ الرئيس المكلّف يضعه ضمن أولوياته، هو ان يتكئ على صديقه ماكرون الذي يلعب معه «صولد»، ولن يخسر شيئاً طالما انّ الورقة الفرنسية هي الوحيدة التي بيده اليوم، وإذا كانت لا تشكّل خشبة الخلاص المطلوبة في ظلّ التضييق الأميركي والخليجي، إلّا انّها تفرمل وتيرة الانهيار، بضخ المساعدات التي تستطيع باريس توفيرها، بانتظار ان تكون الرؤية الأميركية للمنطقة قد نضجت ودخلت حيز التنفيذ.
وما تقدّم هو على مستوى الرئيس المكلّف ومقاربته للأمور. ولكن، هل تعتقد فرنسا انّ التنازلات المتواصلة التي قدّمتها منذ دخولها على الخط اللبناني تفيد صورتها كدولة كبرى؟ وهل إصرارها على مبادرة أُفرغت من مضمونها يدخل في سياق حرصها على لبنان، أم حرصها على دورها في لبنان، في مرحلة قد تشهد تقاسماً للنفوذ الدولي في الشرق الأوسط؟ وألا تعتقد انّ التنازلات المتواصلة ستدفع القوى المعنية بالتأليف إلى جرّها إلى هذه التنازلات، من موقع الابتزاز وصولاً إلى الحكومة التي ترضي مصالح هذه القوى وأهدافها؟ ولماذا تجد نفسها في موقع المساير للوضع القائم، بدلاً من ان تتعامل مع مبادرتها على قاعدة take it or leave it، لا سيما انّ الفريق الحاكم في لبنان والذي أجهض مبادرتها، هو بأمسّ الحاجة لدورها المتمايز عن واشنطن من أجل ان ينقذ نفسه بسبب سوء إدارته وسياساته، ولكن ليس لدرجة ان يصبّ التمايز الفرنسي عن الأميركي في مصلحة أجندة الفريق الحاكم، كما ليس من المفروض أيضاً ان تسلِّم باريس بشروط هذا الفريق؟
فلا يمكن الوصول في لبنان إلى تغيير فعلي من خلال سياسة الترقيع، وإذا كانت القوى المحلية مضطرة، افتراضاً، إلى التعايش مع الأمر الواقع، فلماذا القوى الدولية مضطرة للتساهل مع فريق حاكم عزل لبنان بسياساته، بل التشدّد المُمارس أميركياً وسعودياً يشكّل الطريق الأسلم على هذا المستوى؟ وألا تعتقد باريس انّ المساعدات التي ستؤمّنها للسلطة القائمة ستمنحها مقومات الاستمرار في موقعها ومواصلة السياسات نفسها، فيما كان من الأجدى ربط اي مساعدات بالحكومة العتيدة وبرنامجها، بغية وضع لبنان على خط التغيير المنشود؟ وألا تعتبر باريس انّ دعوتها للمؤتمر ستشجِّع الفريق الحاكم على مواصلة سياساته، والتشدّد في وجهة نظره، مستفيداً من جرعة الدعم الباريسية؟ وألا تعتبر انّها بخطوتها هذه تعوِّم الفريق الحاكم وسياساته؟
وإذا كان لبنان بأمسّ الحاجة للمساعدات الدولية من أجل ان يتجنّب السقوط المدّوي، ولكن يُؤمل ان تكون هذه المساعدات من أجل إنقاذ اللبنانيين لا الفريق الحاكم.