لم يسبق ان حظي لبنان بدعم دولي على غرار الدعم الذي حظيت به قوى 14 آذار، وتحديداً بين عامي 2005 و2009، إذ تحوّل مجلس الأمن الدولي مثابة مجلس الأمن اللبناني، فما يكاد يُصدر قراراً حتى يستتبعه ببيان، وهكذا دواليك. وعلى الرغم من ذلك لم يتمكن المجتمع الدولي من وقف الاغتيالات، او منع «حزب الله» من استخدام سلاحه في 7 أيار 2008. هذه الاغتيالات التي توقفت بقدرة قادر وسحر ساحر، على إثر اغتيال الوزير السابق محمد شطح وإعلان الرئيس سعد الحريري من أمام المحكمة الدولية العودة إلى حكومات التعايش مع الحزب.
فلا إجابة واضحة وحاسمة حول التساؤل الأساسي في هذا الخصوص: لماذا توقّفت الاغتيالات؟ ولا توجد أيضاً إجابة واضحة وحاسمة عن التساؤل الآتي: لماذا عادت الاغتيالات الآن؟ وأما التساؤل الذي قد يجد إجابته لاحقاً على أرض الواقع فقط هو: هل اغتيال الناشط السيادي لقمان سليم هو بداية لموجة اغتيالات جديدة؟ ويُذكر انّ كل محاولات الإغتيال والإغتيالات التي كانت بدأت بين خريف 2004 وانتهت في خريف 2013 موقّعة مبدئياً من طرف واحد.
ومن المسلّم به، انّ لا المجتمع الدولي استطاع وقف الاغتيالات، على الرغم من الكلام عن انّ المحكمة الدولية ستشكّل رادعاً لهذه الاغتيالات، ولا القوى الأمنية نجحت في منع اي اغتيال استباقياً، كما لم تنجح في الكشف عمّن قام بهذه الاغتيالات، ولا تعدو المطالبة اليوم بالقضاء الدولي، بسبب عجز القضاء اللبناني، سوى فشّة خلق وموقف سياسي يعبّر عن غضب لا أكثر ولا أقل، لأنّ القضاء الدولي أتعس من القضاء المحلي، وتجربة المحكمة الدولية في حكم الشهيد رفيق الحريري ومن دون «كفوف» ولا لفّ ولا دوران، مخيّبة للآمال، فصحيح انّها سمّت أحد القياديين في «حزب الله» من دون ان تسمّي الحزب، ولكن ماذا بعد؟
والوسيلة الوحيدة التي ظنّ الشهيد لقمان سليم انّها قادرة على حمايته، هي استمراره في العيش وسط نفوذ «حزب الله»، لأنّ الحزب سيُتهّم مباشرة في حال اغتياله، ولم يُعرف، وقد لا يُعرف، وهذا على الأرجح، ما الأسباب التي غلّبت اغتيال لقمان على كل المحاذير والاعتبارات الأخرى.
وحيال هذا الواقع، ولأنّ القوى الأمنية اللبنانية عاجزة عن منع الاغتيالات وكشف منفذيها، ولأنّ المجتمع الدولي غير قادر بدوره على منع التصفيات وتوفير الحماية للبنانيين، ولأنّه لا القضاء اللبناني ولا الدولي قادر على فعل اي شيء، فإنّ التدبير السياسي الوحيد والمؤقت الذي قد يوفِّر الحماية الشخصية المطلوبة، ويمكن اللجوء إليه من ضمن خطوات عدة لاحقة، يكمن في الآتي:
ـ أولاً، تسليم القرار السياسي والأمني كاملاً إلى «حزب الله» والمحور الذي يشكّل عموده الفقري، فيصبح لبنان تحت الاحتلال الإيراني في شكل كامل سياسياً وأمنياً، على غرار ما كان عليه الوضع إبّان الاحتلال السوري، ويُنشأ النظام الأمني اللبناني-الإيراني المشترك، نسخة طبق الأصل عن النظام الأمني اللبناني-السوري المشترك.
ـ ثانياً، يعتذر الرئيس المكلّف سعد الحريري عن التكليف ويترك الفريق الحاكم يتدبّر أمره في التكليف والتأليف، لأنّ نظرة الحريري إلى دوره الإنقاذي للبلد مالياً في هذه المرحلة، تتناقض مع نظرة الفريق الحاكم الذي آخر همومه الإنقاذ، وجلّ ما يريده من الحريري توظيف دوره من أجل منع سقوط السلطة التي يُمسك بمفاصلها، وان يوفِّر له الغطاء السياسي والأمني، وبالتالي أن يحكم منفرداً شيء، وان يحكم بغطاء شخصية مثل الحريري شيء مختلف تماماً، فيكون هو صاحب القرار والفصل، ويضع الحريري كواجهة لردّ الصدمات الشعبية والدولية.
ـ ثالثاً، في زمن الإنقسام بين 8 و 14 آذار، كان الفريق الثاني يتهِّم الفريق الأول بالاغتيالات، ولم يصل هذا الاتهام إلى حدّ إشهار الطلاق لسببين أقله: الخشية من إعادة الوضع في لبنان إلى ما قبل العام 2005، ومقاربة المشاركة في السلطة من زاوية الإنجاز السيادي، الذي سمح بإخراج الجيش السوري من لبنان، وأتاح اقتسام السلطة بين الفريق السيادي وغير السيادي، وانّه لا يجوز التنازل عن هذا الإنجاز.
ـ رابعاً، يمكن القول انّ الوضع اليوم اختلف عن السابق لسببين محليين أقله: الأوّل، انّ لبنان وسط انهيار مالي كبير يستحيل الخروج منه بسهولة، كما لا مصلحة في المساهمة بالخروج من هذا الوضع من دون إلزام الطرف الآخر بتنازلات سيادية، وبالتالي الخيار الأفضل تركه في مواجهة مع الناس الفقراء، لأنّ المواجهة اليوم لم تعد بين 8 و 14 آذار، إنما أصبحت بين الناس والفريق الحاكم الذي أفقرهم، وتركه يتخبّط بالانهيار الذي لم يصل إليه لبنان سوى بسبب سياساته الداخلية في إدارة الدولة، والخارجية في دور لبنان.
والسبب الثاني، هو انّ الخشية من لجوء هذا الفريق إلى تركيب الملفات على غرار الزمن السوري في حال تمّ تسليمه البلد في طوله وعرضه، فهذه الخشية في غير محلها، لأنّ هذا الفريق لن يتمكن من تطبيق حكم مخالفة سير واحدة في حال استمر التدهور والانزلاق المتواصل إلى أسوأ الأسوأ.
ـ خامساً، معلوم انّ المنطقة تشهد هندسة جديدة في ظلّ موقف عربي قرّر الذهاب إلى النهاية في المواجهة مع إيران، والتخلّي عن سياسته السابقة «رِجل في البور وأخرى في الفلاحة»، والعنوان الأول للتطبيع العربي مع إسرائيل هو مواجهة طهران، ولم يكن مطروحاً دولياً قبل هذا التطبيع ان تكون الرياض شريكاً في مفاوضات النووي مع إيران، وبالتالي المنطقة قد تكون دخلت للمرة الأولى في زمن التسوية النهائية، التي لن يكون لبنان خارجاً عنها بسبب الدور الإيراني الذي يُمسك بقراره.
ـ سادساً، من الأجدى في هذه المرحلة التي يُعاد فيها رسم المنطقة وترسيم حدود الدور الإيراني، إسقاط اي غطاء او تمويه على حقيقة انّ القرار السياسي في لبنان ممسوك كلياً من «حزب الله»، بل المصلحة تقتضي الخروج كلياً من السلطة إظهاراً للواقع على حقيقته، والمقصود بالسلطة اي الحكم والحكومة، بترك الفريق الآخر يحكم منفرداً، وليس الاستقالة من مجلس النواب، لأنّ الفريق الحاكم لن يلجأ إلى الانتخابات، والبرلمان سيكون المساحة والمسرح لتنفيذ اي اتفاق جديد وترجمته، وبالتالي من الخطأ الاستقالة منه سوى في حالة واحدة وهي الدخول في مواجهة مفتوحة لقلب الطاولة على قاعدة «عليّ وعلى أعدائي»، اي تحويل الاستقالة منه تظاهرات مفتوحة على كل شيء في الشارع.
ـ سابعاً، بعد الرفض الطوعي لأي مشاركة في السلطة، واستطراداً وضع «حزب الله» يده كاملة على القرارين السياسي والأمني، يقتضي توجيه رسالتين: الأولى إلى الحزب بتحميله المسؤولية عن اي اغتيال، والثانية إلى المجتمعين العربي والغربي بأنّ لبنان خاضع لسيطرة طهران في شكل كامل، ودعوته إلى رفض التعاون معه نهائياً، وإدخاله بنداً أساسياً في اي مفاوضات دولية مع إيران من أجل ان يستعيد سيادته واستقلاله وعافيته.
ـ ثامناً، وضع «حزب الله» في مواجهة مع المجتمعين العربي والغربي، وفي مواجهة مع الناس الفقراء والجائعين داخل بيئته وخارجها، وتحميله المسؤولية عن الفقر والجوع، كما مسؤولية اي اغتيال او حدث أمني، ودعوة المجتمع الدولي إلى تحمُّل مسؤولياته، ليس في إطلاق بيانات الإدانة التي لا تقدِّم ولا تأخِّر، إنما بوضع لبنان تحت البند السابع والدعوة إلى مؤتمر دولي لحل الأزمة اللبنانية لمرة واحدة وأخيرة، كما دعا البطريرك الماروني بشارة الراعي.
وعلى الرغم من استحالة تحقيق ما تقدّم من تصوّر في ظلّ الخلاف العميق بين مكونات المعارضة، وخشية البعض منها من الذهاب بعيداً في المواجهة، علماً انّ المطلوب ليس المواجهة بل الإنكفاء والجلوس في موقع المتفرِّج، إفساحاً في المجال أمام كشف رأس السلطة وإدانتها في حال حدوث اي اغتيال، ولكن في حال عدم كشف رأس الفريق الحاكم أمام الداخل والخارج، فإنه سيبقى مستفيداً من غياب الإنقسام العمودي بين 8 و 14 آذار، ومستفيداً من غطاء بعض مكونات 14 آذار السابقة له، ومستفيداً من استمرار الستاتيكو الحالي، وسيبقى في البلد من يعدّ الشهداء الواحد تلو الآخر ويأسف على رحيلهم، وينتظر الأسوأ...