بقلم : محمد أمين
هذه قصة تاجر أقمشة.. لم يكن من السياسيين ولا الحزبيين.. تاجر أقمشة لا علاقة له بالسياسة، ولكنه قدم لنا درسًا فى الوطنية.. يجب أن نذكره له.. أرسل الرسالة السفير محمود كريم.. يقول فيها: للوطنية وجوه كثيرة نعرفها وأخرى لا نعرفها.. ونحاول اكتشافها.. فى تاريخنا الوطنى قصة ينبغى أن نحكيها.. حدث فريد من نوعه، لوجه جديد من الوطنية، يثير انبهارك ودهشتك، وقد يُحرك دموعك إعجابًا بهذا الوطن الملهم!.
الحاج خليل عفيفى.. تاجر أقمشة من الزقازيق، لا ينتمى إلى أى حزب سياسى.. أو تيار فكرى، وصل إلى سمعه أن الزعيم الكبير محمد فريد تُوفى فى الغربة (ألمانيا)، وبلغه أن الاحتلال الإنجليزى قرر عدم دخول جثمانه مصر، انزعج الحاج خليل، غير المُسيَّس، من هذا القرار مع زعيم الوطن، سافر إلى القاهرة وسعى قدر الإمكان للحصول على تصريح حكومى بعودة الجثمان، ونقل رفات الزعيم إلى وطنه، وافقت الحكومة، لكنها رفضت تحمل أى تكاليف أو إجراءات لنقل الرفات، فى الوقت الذى تعانى فيه أسرة الزعيم الفقر!.
وهنا قرر الحاج خليل عفيفى بيع جميع أملاكه، واستخدم نقوده فى مهمته الوطنية لإحضار جثمان الزعيم بنفسه من ألمانيا، وسافر بالفعل إلى باريس وتوقف هناك شهرًا نظرًا لاندلاع مظاهرات فى ألمانيا، حيث لم يكن الوضع مستقرًّا، وأُصيب بالتهاب رئوى حاد.. وبعد استقرار الوضع فى ألمانيا، تحامل الحاج عفيفى على آلامه ومرضه، وسافر إلى ألمانيا ليفاجأ هناك بقانون ألمانى يمنع نقل رفات أى متوفى خارج البلاد، ولم ييأس الرجل الوطنى أو يكسل عن أداء مهمته، وبدأ رحلة البحث عن مصريين هناك لمساعدته، وبالفعل وفّقه الله فى العثور على ثلاثة مصريين أيدوا فكرته، وهم دكتور عبدالعزيز عمران وإسماعيل لبيب والتاجر المصرى محمد سليمان!.
وبذل المصريون الأربعة كل المساعى لدى حكومة ألمانيا، وساعدهم فى ذلك البارون الألمانى أوبنهايم، واحْتَجَّ الأربعة لدى الحكومة الألمانية بواقعة مشابهة، إذ سبق أن وافقت على نقل جثمان أحد الضباط الفرنسيين إلى فرنسا بناء على طلب الحكومة الفرنسية، وبالفعل حصلوا على ترخيص بنقل الرفات إلى مصر، عبر النمسا وإيطاليا، وتغلبوا على العراقيل التى كانت تواجههم فى كل دولة، وبعد ثمانية أشهر من المعاناة وصل الحاج خليل عفيفى إلى ميناء الإسكندرية، واحترامًا لجثمان الزعيم المغطى بعَلَم مصر، نكّس الميناء الأعلام، وتجمع مئات المواطنين وأطلقوا الهتافات والزغاريد التى اختلطت بالدموع لعودة الزعيم محمد فريد إلى وطنه.. وتم نقله إلى مقابر السيدة نفيسة، بجوار جثمان أخيه الزعيم مصطفى كامل فى ضريح واحد!.
أما الحاج خليل عفيفى فقد حصل على نيشان الوطنية، وشيّعه يوم رحيله النساء والأطفال والشيوخ والكبار إلى مثواه الأخير، حيث أعطى كل شىء ولم يأخذ شيئًا ليعلمنا درسًا فى معنى الوطنية الحقّة، التى تربى عليها شعب مصر العظيم!.