بقلم : محمد أمين
أعرف ما الذى أُعجب به كثيرون من حكاية السائح والصيادين أمس.. سبب الإعجاب أن النتيجة التى توصل إليها السائح الحاصل على الماجستير من جامعة هارفارد كانت هى نفسها النتيجة التى توصل إليها الصيادون بفطرتهم.. فالوعى أيضًا له حساباته التى لا يمكن التقليل منها.. فالصيادون أدرى بحرفتهم ومهنتهم، كما يقال «أهل مكة أدرى بشعابها»!
فأنت حين تجلس إلى الفلاحين الذين لا يقرأون ولا يكتبون تتعلم منهم، وأنت صاحب الشهادات، خاصة إذا كنت تتحدث معهم فى مجال الزراعة.. فالباحث فى مجال الزراعة سوف يتوصل إلى نفس النتائج التى توصل إليها الفلاحون.. والباحث فى إدارة الأعمال قد توصل إلى نفس النتيجة التى توصل إليها الصيادون!
السؤال: من علَّم الصياد ذلك؟ ومن علَّم الفلاح ذلك؟.. إنها خبرة السنين وتواصل الأجيال.. أذكر أن الفلاح حين كان يسأله أحد عن الساعة لم يكن يفتح محفظته لينظر فى الساعة التراثية، وإنما كان يقف فى الشمس وينظر أين هى فى كبد السماء ثم يعطيها ظهره ويقف ممشوقًا منتصبًا.. ثم ينظر ليرى مد ظله تحت قدميه فيعرف من طول الظل الساعة بالتحديد، ولو أنك نظرت فى ساعتك الحديثة سوف تعرف أنهما يتطابقان.. ما قاله الفلاح وما نطقت به عقارب ساعتك.. وهى مسألة فطرية صنعتها الخبرة والوعى!
وفى التراث الشعبى قصص وحكايات وألوان من العادات والتقاليد التى يتداولها الناس ويتناقلونها من جيل لجيل.. القاسم المشترك فيها الوعى.. وقد سألت فلاحًا صعيديًا فى الأقصر عن ظاهرة البرد الشديد فى شهر نوفمبر، فقال كلمة قاطعة كأنه عالم بالأشياء: إنها ستنتهى الليلة الساعة ١٢.. وبالفعل انتهت الظاهرة وعمَّ الدفء المكان كأنه لم يكن منذ ساعات!
أعرف أصدقاء من الفلاحين الذين يتفوقون فى علمهم على علم مهندسى الزراعة، وكلامهم فى هذا المجال حجة إذا تحدثوا عن مواسم الزراعة والرى بالراحة أو بالمطر.. مع أن الفلاح أشعث أغبر لا تصدق أنه يعرف ذلك أبدًا!
ربما كان ذلك سبب إعجاب البعض بقصة الصيادين الذين أبهروا السائح بقدرتهم على الصيد وإدارة الأعمال من غير كتب ولا أبحاث ولا ماجستير، وهو تقريبًا نفس ما توصل إليه العلماء عن حياة المصرى القديم كيف استفاد من مواسم الزراعة والرى، وكيف ارتبطت عنده كل هذه الأشياء بمواقع الشمس والنجوم!.