بقلم : تمارا الرفاعي
عدا عن الأيقونة، لم أر فى الصورة سوى الكنبة بقماشها المزركش على شكل أوراق الشجر وورود بألوان خريفية. وقفت السيدة فيروز تستقبل الرئيس الفرنسى على خلفية تعليقات كثيرة ملأت الفضاء الافتراضى وأعادت، كما فى كل مرة تكون فيروز فيها موضوع الحديث، أعادت كلمات أظن أن معظمنا يحفظها ويدندنها بتلقائية.
***
فى الصورة ظهر داخل بيت يشبه بيوتا كثيرة زرت أصحابها، حتى أننى حين أصف بيتا تعيش فيه أسرة متعددة الأفراد أبدأ دوما بغرفة جلوس كتلك التى تناقلتها وسائل التواصل الاجتماعى. كنبة بثلاثة مقاعد، ألوان مريحة، جدران عليها لوحات لا أذكر تفاصيلها إنما أضفت قصصا على الحائط. بعض النثريات التى تجتمع دوما على طاولات البيوت. أيضا لا أذكر التفاصيل إنما أتخيل طاولة فى ركن الغرفة عليها بعض الصور لأطفال العائلة فى إطارات يغطى بعض منها الآخر، مزهرية ربما من الزجاج الملون فيها ورد، كتاب، من تركه هنا؟ أليس للكتب أماكنها على الرفوف؟
***
الغرفة مضاءة بأنوار جانبية كما أذكر، تعطى للمكان حميمية لا يمكن للنور المباشر المعلق فى السقف أن يخلقها. ثمة مرآة فى مدخل الغرفة على الأغلب. أم ترانى أصف بيت عائلتى أو بيت عائلة أخرى؟
***
أظن أن فيروز تمثل لبنان الذى أحبه الكثيرون فى أغانيها وربما لم يعيشوه. وغرفة معيشة فيروز التى انكشفت على الملأ بسبب الزيارة الرسمية تمثل بيتا لعائلة كما أحببناه فى المسلسلات أو فى القصص. أظن أن هناك نوعا من «أيقنة» دخلت على لبنان كما وصفته فيروز للبنانيين أولا ثم للعالم، مثل دمشق التى حملها نزار قبانى فى قلبه فخلق بقصائده مادة بصرية ألم بها حتى من لم يزر دمشق قط.
***
لبنان فيروز ودمشق نزار فيهما قطعا بعض الحقيقة، فى تفاصيل نقلاها فخرجت من لبنان ومن دمشق وتخيل لمن استلمها أنه بات يعرف المكانين. اليوم، وبعد سنوات من التخبط والدمار تظهر كلمات أغانى فيروز وشعر نزار طوال الوقت فى الفضاء الأزرق وتكتب بعض جملهما على بطاقات المعايدة أو تذيل بها لوحات وأعمالا فنية. لا شك أن للبنانيين والدمشقيين تصورهم الخاص عن الجبل فى لبنان وحكاياته والياسمين فى دمشق ورائحته، فهما موجودان فعلا وليسا من نسيج الخيال. لكنى أصبحت غير متأكدة من باقى القصص التى حملها نزار وفيروز. اليوم تغرق المنطقة فى لعنتها أكثر من ذى قبل، أو هكذا يبدو من حجم الدمار من حولى، دمار الحجر والبشر، فأبحث عن جبل الأول وعاصمة الثانى بين الركام.
***
فى غرفة معيشة فيروز سكينة من يجلس فى ركن يراقب العالم وفى يده كوب من الشاى. فى غرفة جلوس فيروز أرى أطفالا لبسوا لبس النوم وجلسوا يشاهدون حلقة من مسلسل قديم. عشاؤهم خبز وجبنة وبعض شرائح الخيار، انتهوا من واجباتهم المدرسية ولعبوا كرة القدم أمام عمارتهم مع أولاد الجيران، ثم عادوا إلى البيت واغتسلوا قبل النوم.
***
هو مساء عائلى غير حافل سوى بالتفاصيل الحياتية اليومية. تفاصيل صارت بعيدة المنال كما هو جبل فيروز وشام نزار. أتساءل كثيرا إن كان العادى صار ترفا وإن كان من سبقنا قد ألف قصصا عن آخر ليالى الصيف وموسم العودة إلى المدارسة دون قصد أم أن تلك الأيام التى عاشوها كأفراد وكجماعة انتهت حين انتهت ضيعة فيروز وسرب حمام نزار قبانى.
***
أصر أن يسمع أولادى أغانى فيروز وأن يتعلموا رقص الدبكة، أرفض التعامل مع ابنتى بلغة غير اللغة العربية، أفرض عليهم قصتى وصورتى، هل أجبرهم بذلك على تبنى سرديتى؟ أريدهم أن يروا أشياء كما رأيتها، أريدهم أن يحبوها وأن تكبر معهم فتصبح جزءا منهم أيضا. لا أعرف إن كانوا سيزورون لبنان أو دمشق لكنى أريدهم أن يتحدثوا عنهما كما لو كانوا يعرفونهما. أريدهم أن يتذكروا غرفة معيشة تشاركوا فيها كنبة ألوانها دافئة، فى ركن منها الطاولة ضمت صورا لهم فى طفولتهم.
***
أشعر أحيانا أننى أكتب لهم ذكرياتهم فأنظر إلينا وكأنى خارج الغرفة فأرانا من الشباك: أم كثيرة التعليق على تصرفات أولادها، طفلة صغيرة تعرف أنها حين ترتمى فى حضنى يكاد قلبى أن يخرج من مكانه ليحتضنها. الطفلان فى لباس النوم ماذا يتذكران من هذا المساء العادى؟ كم كانت أمنا تصر على النظام، لكنها كانت حين تسمع أول نقرة موسيقى لأغانٍ قديمة كانت تتحول إلى شخص آخر وتتمايل وتحاول أن تشرح لنا كلمات صعبة من أشعار كانت أمنا تحفظها وتصر أن نحفظها.
***
طلبت منى صديقة أن أدع أطفالى يأخذون مما حولهم ما يريدون دون أن أفرض عليهم قصصى. فكرت كثيرا وحاولت أن أتبع نصيحتها، ثم سألت نفسى عمن أريدهم أن يحدثونى عنه حين أصبح سيدة متقدمة فى السن سمعها ثقيل تجلس على كنبة قماشها خريفى اللون. أريدهم أن يقرأوا لى الشعر ويحكوا لى عن دمشق كما أتذكرها وكما لم يعرفوها. أريدهم أن يحكوا لى قصصى فى غرفة معيشة فيها من التفاصيل الحياتية مقدار عمر كامل من القصص. أريد غرفة معيشة كغرفة فيروز.