بقلم : عبد الرحمن شلقم
اللغة الواحدة في أكثر من بلد تفرض طبيعة خاصة للأفكار. أولاً، تجعلها عابرة ليس للمكان فقط، بل للتكوين الخاص بالمجتمع الواحد؛ في ذلك غنى وكثافة فكرية وعمق خاص يفرضه الموضوع الذي يبحر فيه المبدع في المجالات المختلفة.
اللغة العربية التي تحرَّكت منتشرة مع الفتوحات الإسلامية شرقاً وغرباً، وهي لغة كتاب الله، وبها يصلي المسلمون عرباً وغير عرب، اكتسبت قوة القداسة لدى جميع المسلمين لديهم. خلقت اللغة العربية رابطة فكرية بين الشعوب الناطقة بها، بل أسست لقواعد في نسق التفكير عند الخاصة، وحتى العامة. منذ بداية خوض العرب في الفلسفة والفقه، وغيرهما من موضوعات الفكر، لعبت اللغة دوراً مفصلياً في تحديد مضمونه وفعله وتفاعله وانتشاره على امتداد البلاد العربية. كتاب يصدر في سوريا أو العراق، في العهد الأموي أو العباسي وما بعدهما، يصل إلى مصر والجزيرة العربية وشمال أفريقيا، وإلى الأندلس. يصبح الناس ويسهرون على مناقشة مضمون ما وصلهم من الكتب بين متفق ومختلف؛ طبعاً التوجهات الدينية التي تحكمها النحل والمذاهب لعبت دوراً في الأحكام على ما يطرح من أفكار وصل بعضها إلى التفسيق والتكفير.
الزمن هو الكائن الذي يمضي، ولكنَّه يبقي ما ولَّده في عقول الناس. نبت المكان والزمان مبكراً في المخيال العربي بكل ما فيهما من فكر يشعل ومضات الشجن، وذكرى تقدح الإبداع. البكاء على الأطلال لا يفارق من يقف عليها، لكن الإطلال ليست دائماً بقايا ما كان واقفاً على الأرض من خيامٍ أو مبانٍ، بل ما خُط في العقول وعلى أوراق الكتب من أفكار.
منذ قرون، قال امرؤ القيس:
قِفا نبكِ من ذكرى حبيب ومنزلِ... بسقط اللوى بين الدخولِ فحوملِ
ومضي قائلاً:
وقوفاً بها صحبي عليَّ مطيهم... يقولون لا تهلك أسًى وتجملِ
البكاء على الإطلال ليس لزوال ما كان فوق المكان، ولكن لمن كان به أيضاً من الأحبة الذين عاشوا به ردحاً مضى من الزمان.
قال المتنبي:
تذكرتُ ما بين العذيب وبارقِ... مجرَّ عوالينا ومجرى السوابقِ
وصحبة قومٍ يذبحون قنيصهم... بفضلة ما قد كسَّروا في المفارقِ
وليلاً توسدنا الثوية تحته... كأن ثراها عنبرٌ في المرافقِ
أبو الطيب المتنبي هو أيضاً ذكره المكان بماضٍ كان، لكنَّه لم يبكِ كما فعل امرؤ القيس، بل جعل من المكان هاتفاً يعيده إلى أيام لها معنى في العقل والروح، تشحذ قوة ذاته التواقة للمنازلة والقتال. صار للمكان أثر مختلف، وهو التعبئة المعنوية كما نقول اليوم، يستحضر الماضي ليكون شعلة قوة في معارك سيف الدولة الحمداني. البكاء على الزمن الغابر، وما كان ومن كان به، يمكن أن ينبت ويترعرع في العقول بلا توقف عابراً الزمان والمكان. لكل حضارة عمر تُولد في بدايته وتكبر وتتطور عبر الأجيال؛ كل جيل يضيف إلى ما أبدعه سابقه فلسفة وفناً وعلوماً تطبيقية. أوروبا مرَّت بحقب متنوعة بها كثير من الصدام والدماء؛ حرك بعضها الدين، وأخرى نزعات التوسع والسيطرة، لكنها ظلت تقدح عقول مفكريها وفلاسفتها وعلمائها لإبداع ما يستجيب لما تتطلبه مستجدات الحياة. تأخذ من الماضي الراحل ما فيه من ومضات العقل الخلاقة، وتنسى ما تجاوزه الزمن وصيروة الحياة. الحضارات الشرقية الآسيوية في أغلبها شهدت توالد الزمان، وتدفق الإبداع الجديد في اليابان والصين وغيرهما في كل المجالات الفكرية والعلمية، وكذلك الأمر في أميركا الشمالية. كانت حلقات الحياة وقفات قدحت الأفكار، وصنعت التقدم للإنسان، وفقاً لمتطلبات زمنه الجديد المتجدد.
العرب لم يكونوا استثناء في تلك الحقيقة الإنسانية، لكن الموروث الذي لا يذهب مع قافلة الماضي يبقى ثقلاً لا يبرح الوجدان والعقول. شهد القرن الماضي منذ بدايته وقدات فكرية في البلاد العربية، بدايات اجتراح أفكار تواجه استحقاقات الزمن المتجدد بإنسان جديد وعقل جديد، لكن البكاء على أطلال ما ترسب في الرؤوس ظلَّ له فعل يكبح خطوات التفكير والتجديد. العودة إلى الماضي قريبه سحيقة، تكرس هيمنة الأطلال التي تسكن العقل، وتغرس الموانع الصلبة أمام الأجيال لأن تدخل رحاب عصرها.
قِفا نبكِ، عبارة تتكرر بلا توقف في مجريات الزمن العربي، ولها القوة القادرة التي تهيل تراب الماضي الموروث على محاولات ومبادرات القوى المتسلحة بالعقل والعلم.
النخب العربية في كثير من البلدان بدأت الانطلاق في أوطانها، لكنها قمعت بقوة السلطة أو بقوة ثقل الموروث. وعندما انتقلت بعض العناصر من تلك النخبة إلى الدول المتقدمة، خاصة الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا، استطاعت أن تقف في أرتال العلماء والمفكرين الكبار. جوائز نوبل التي تمنح سنوياً للعلماء الذين يقدمون الجديد للإنسانية في المجالات العلمية المختلفة لا مكان فيها للعقل العربي، عبر كل العقود التي أصبحت فيها الجائزة علامة تشير إلى نهضة الأمم ومساهمتها في الإبداع الإنساني الذي يخدم البشرية في المجالات الحيوية المختلفة. تصنيف الجامعات على مستوى العالم، وغياب الجامعات العربية عن القوائم الأولى فيها، يجب أن يكون مطرقة تهوي على رؤوس المسؤولين، علَّها توقظهم كي يراجعوا خريطة التعليم في الجامعات، ويعالجوا الوهن الذي ران على مؤسسات التعليم في البلاد العربية. أفضل عشر جامعات في العالم ليس بينها جامعة عربية واحدة حسب التنصيف العالمي. ما تخصصه الدول من ميزانياتها للبحث العلمي يُعد مقياساً أساسياً للاستثمار في العقل الإنساني، ويحفّز قوة التقدم. الدول العربية يأتي ترتيبها جميعاً بعد الأربعين على مستوى العالم، في حين يأتي ترتيب إسرائيل في المركز الثاني والعشرين، وهو عالٍ جداً بالنسبة لما تنفقه من صافي ميزانيتها (بنسبة 4 في المائة)، وبذلك تمكَّنت من تطوير قدراتها الصناعية في مختلف المجالات، بما فيها العسكري؛ تصدر المنتجات الغذائية والطبية والصناعية إلى كثير من الدول. ومما يستحق الوقوف عنده أنَّ إسرائيل تصدر اليوم الأسلحة إلى بريطانيا والهند! نحن في حاجة اليوم إلى أن نصرخ ونقول: قِفا نفكر.