بقلم : عبد الرحمن شلقم
قال الشاعر التونسي المصري الكبير «تونس أيا خضراء، يا حارقه الأكباد، غزلانك البيضاء تصعب على الصياد». رحل الشاعر الكبير، لكن تونس الخضراء وغزلانها بكل ألوانها، لا تزال تحوم في بساط ريح آخر، نُسجت خيوطه الطويلة هذه المرة من صوف غزلان لا تعوم على الشطوط، وإنما تلهث في فجاج عراك السياسة وسهول الأزمات الاقتصادية والاجتماعية وحتى النفسية. الغاضب اليائس تخنقه نوبة وتقدم له الحل البسيط الرهيب. لتر من البنزين وقداحة ليشعل جسده ويتحول إلى رماد لا يتوقف عن الاشتعال في صدور الناس وحواسهم. من المرزوقي الأول الذي أشعل ثورة الياسمين التونسية بلحمه وعظامه، إلى المرزوقي الثاني الذي صار رئيساً للبلاد بعد الثورة، ولم يتوقف عن تأجيج النار في الكلام. أما ثالث الأثافي، فكان غاضباً آخر تجمعت فيه عواصف الحياة ومعها تراب حطَّ على مرحلة حارة في حياته، حيث قضى سنوات في السجن في عهد بن علي بسبب توجهه السياسي الإسلامي. بعد الثورة التحق بالعمل بمقر حزب النهضة موظفاً في بهو الاستقبال، لكنه فُصل وخنقه حبل الحياة. لتر من البنزين وعود كبريت وأشعل النار في جسده بوسط بهو الاستقبال بمقر حزب النهضة بينهم العريض رئيس وزراء سابق قفز من أعلى المبنى، وكذلك الهاروني رئيس مجلس شورى حزب النهضة الذي أصيب بحروق. هل تونس بيرم التونسي الخضراء صارت لا تحرق الأكباد، وإنما الأجساد؟ الرئيس الفصيح قيس سعيّد بعد إعلان ثورته في شهر يوليو (تموز) الماضي، أو لنقل «الفارط» بلغة إخوتنا في تونس، لم يتوقف عن إطلاق بياناته التي تهزّ الكيان التونسي كله، وينقسم الطيف السياسي بشكل حاد لا يغيب عنه إيقاع الصدام. انتظر الناس شهوراً لكي يعرفوا بدقة ماذا يريد الرئيس؛ تعيين رئيس للحكومة استغرق وقتاً ليس بالقصير. تحديد مآلات دستور 2014، كان السؤال الذي شغل الناس واختصموا فيه. مصير البرلمان المجمد أو المعلق كما يصفه الرئيس، كان حلقة جدل ساخنة. مطالبة داخلية وخارجية بضرورة تفعيل الحياة النيابية وإصرار عدد من الدول والمؤسسات الدولية التي تقدم مساعدات وقروض إلى تونس، وضعت ذلك شرطاً لتقديم المساعدة المالية من أجل إنقاذ البلاد من ضائقتها المالية الخانقة. يوم الاثنين الماضي 13 ديسمبر (كانون الأول)، خرج الرئيس قيس سعيّد وعرض مرتكزاته السياسية التي تحدد مستقبل الحياة السياسية بالبلاد. سبع نقاط أساسية يرى الرئيس أنها كفيلة بلضم العقد الوطني «المنفرط»، وهي:
1 - يبقى مجلس النواب معلقاً أو مجمداً إلى تاريخ تنظيم انتخابات جديدة.
2 - تنظيم استشارة شعبية - استفتاء - بداية من 1 يناير (كانون الثاني) 2022 عبر منصات إلكترونية ولقاءات في المعتمديات تنتهي يوم 20 مارس (آذار).
3 - تكوين لجنة تقوم بالتأليف بين مختلف الاقتراحات والإجابات.
4 - يتم عرض مشاريع الإصلاحات الدستورية وغيرها على الاستفتاء يوم 25 يوليو، تاريخ الاحتفال بذكرى إعلان الجمهورية.
5 - تنظيم انتخابات تشريعية وفق القانون الانتخابي الجديد يوم 17 ديسمبر 2022.
6 - وضع يخص الصلح الجبائي بالقيام بمشاريع تعود للدولة والأهالي، بحيث تعود أموال الشعب لصاحبها.
7 - محاكمة كل الذين أجرموا في حق الدولة التونسية وحق الشعب، وعلى القضاء أن يقوم بوظيفته في إطار الحياد التام.
بعد بيانه الأول في شهر يوليو المنفرط، صدع الرئيس ببيانه الثاني الذي انتظره التونسيون طويلاً. نقاط الرئيس، هل ستكون أعمدة الحكمة السبعة وتفتح الباب الكبير لتعبره الدولة التونسية القيسية نحو الاستقرار وانطلاق الجميع بكل مشاربهم وتكويناتهم، لتعود غزلان تونس تعوم على الشطوط ولا تخاف صيد المي وحرق الـجسام، أم ستكون الألغام الشعبوية القاعدية التي تضمنتها الخريطة السباعية أعواد كبريت سيلقيها أكثر من غاضب على ألواح تلك الأعمدة وسائل البنزين تنزّه آهات الحائرين؟
الرئيس قيس سعيّد الثاني مكرر في ديسمبر بعد يوليو، لم يخفِ منذ البداية نزعته القاعدية الشعبوية، وضيقه من التجربة البرلمانية الحزبية، وأعلن ذلك بكل صراحة في برنامجه الانتخابي الرئاسي؛ مما حشد له تأييداً شعبياً كاسحاً لم يتوقعه حتى هو ذاته.
سنة كاملة تفصل تونس عن الوصول إلى محطة يفترض أنها ستعيد الاستقرار إلى البلاد المضطربة المنهكة. لكن الشهور حبلى بالمجهول الذي يعسعس في أفق مشحون بكيمياء الأمل، والغضب الصامت الذي يتحرك في دائرة وقف التنفيذ. المسافات بين الفرقاء طويلة، ورتقها يحتاج إلى حبال من العقل والفعل مضادة للبنزين وأعواد الثقاب. بالتأكيد، إن قيس الثاني يدرك مدى هشاشة الأرض التي يخوض فوقها معاركه، فتونس وطن يعج بالمفكرين، بل بالفلاسفة الكبار بقدر ما فيه من المكونات المدنية، وعلى رأسها اتحاد الشغل الذي خاض منذ قيام الدولة معارك ساخنة مع المجاهد الأكبر الحبيب بورقيبة وجنرال الأمن الأكبر الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي، ومع اتحاد الشغل نقابات لها تأثير فاعل في الشارع التونسي. الرئيس قيس سعيّد لا يقف بمفرده في الصف الأمامي سياسياً بالبلاد، فهناك من بين الأحزاب من يؤيده في كل حرف من نقاطه السبع، فقد صرح محمد القوماني، أحد القادة البارزين بحزب النهضة الإسلامي، بأن ما أعلنه الرئيس مؤخراً، هو تكريس لانقلابه وستعمل الحركة على إفشاله بالتعاون مع كل القوى السياسية الوطنية، وستدعو الجماهير إلى الخروج للشارع رفضاً لاختطاف الإرادة الشعبية. وطلب القوماني من الرئيس التراجع عن مشروعه وندد بما سماه محاولة الانفراد بالحكم. في المقابل، صرح وليد العباسي القيادي في حزب التيار الشعبي، بأن حزبه يؤيد ما جاء في النقاط السبع التي أعلنها الرئيس، وخاصة ما تضمنته عن المشاركة الشعبية الواسعة، بحيث يمكن للجميع أن يشارك في الانتخابات والاستفتاء، وأضاف العباسي، أن هناك أحزاباً تلقت دعماً خارجياً، وهناك من خالف القانون وأكد أن هناك تأييداً كبيراً لما أعلنه الرئيس.
تونس تقف اليوم أمام أكثر من باب، ولكل واحد منها مفتاح في جيب القادم المجهول.