بقلم: مشعل السديري
يقول (أبو عبد الله): ومن كرم الملك عبد العزيز كما سمعت وشاهدت أن أوجد مبنى كبيراً يسمى (المناخ) ويتكون من دورين وفيه عشرات الغرف للضيوف وأبناء السبيل الذين يبيتون خارج السور، حيث إن البلد يغلق أبوابه بعد المغرب حتى الصباح، وقد ذكره لي أحد الأشخاص وقال إنه يوجد فيه وجبة عشاء كل يوم مع الأرز واللحم بعد المغرب، فذهبت إليه على دراجتي الهوائية ووجدته فعلاً مفتوحاً 24 ساعة وعلى بابه الرئيسي حراس، فدخلت وجلست مع الناس أنتظر العشاء وعددنا حوالي 300 رجل، فلما أحضر الطعام وهو في الصواني قام إليه الناس مسرعين وكانوا يقتتلون على اللحم، والقوي هو صاحب الحظ، والضعيف ما له إلا الأرز، وسمعت أنه أقيم مبنى آخر أكبر وبنظام أفضل - ومن ذكرياته يقول: كان عمي اسمه حسن يعمل من جملة العمال (الحرفية) بمنطقة يقال لها حوطة خالد بالرياض، وتزامن يوماً من الأيام مرور الملك عبد العزيز وبعض خدمه علينا وهم يمشون على الأقدام وأظنه متوجهاً من قصر الحكم إلى بيوته في المربع، وكان الغبار يتطاير بيننا فقال أحد الخدم (الخويا) لنا: قفوا هذا الملك عبد العزيز، فتوقفنا فقال الملك عبد العزيز لما وصل إلينا وسلم: (لا يهمونكم... اشتغلوا عافاكم الله) فالعمل الصالح عبادة.
كذلك سمعت أنه مّر على أحد العمال (المصدّرين على السواقي) وهو يضرب الدابة بقوة فقال له الملك عبد العزيز: أرفق بدابتك لا تضربها بالقوة هداك الله، فقال العامل وهو لا يعرفه: إنها ليست لي، فقال الملك عبد العزيز متعجباً: (ايه الدابة دابة الشيوخ والعصا من الشجرة). ويقال إن الملك كان في أحد مجالس القرى، والذي كان يصب القهوة بدأ بوالده، فتساءل الملك عنه، فقالوا: إنه يا طويل العمر والده، فشكر الملك هذا الولد عندما قدر أباه، وأخذ يقول للولد بصوت مرتفع يسمعه الجميع: فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً، واخفض لهما جناح الذل من الرحمة، وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيراً.
وفي تلك السنة 1372هـ يأتي خبر موت الملك عبد العزيز، رحمه الله، مع الذين أتوا من الرياض إلينا بالدلم كالصاعقة، حيث لا يوجد أيامها (راديو)، وقد أصاب الناس الخوف والهلع والبكاء والحزن.
وهكذا مات البطل الذي جمع الله به الشتات، وقرّب به القلوب المتباعدة، والقرى المتناطحة، فطالما ركب المهلكات، ومشى بين الحياة والممات، وفي النهاية نال إن شاء الله الجنّات والبركة والصلاح في ذريته... آمين.