بقلم - مشعل السديري
من قراءاتي: إنه إذا دخلت (العشر الأواخر) من رمضان اجتهد المجاورون للحرم الشريف في قيامها وصلاة تراويحها وكثرة الأئمة فيها، وكل وتر من الليالي العشر الأواخر كان يختم فيها القرآن، فليلة الحادي والعشرين ختم فيها أحد أبناء أهل مكة وحضر الختمة القاضي وجماعة من الأشياخ، فلما فرغوا منها قام الصبي فيهم خطيباً ثم استدعاهم أبو الصبي المذكور إلى منزله إلى طعام وحلوى قد أعدهما واحتفل بهم.
ثم بعد ذلك ليلة الثالث والعشرين، وكان المختتم فيها أيضاً أحد أبناء المكيين ذوي اليسار غلاماً لم يبلغ سنه الخمس عشرة سنة، فاحتفل أبوه لهذه الليلة احتفالاً بديعاً، وذلك أنه أعد له ثريا مصنوعة من الشمع مغصنة، ووضعها في وسط الحرم مما يلي باب بني شيبة شبيهة المحراب المربع من أعواد مشرجية، وربطت في أعلاه عيدان نزلت منها قناديل وأسرجت في أعلاها مشاعل، ووضع بمقربة من المحراب منبر محلى بكسوة مجزعة مختلفة الألوان، وحضر الإمام الطفل فصلى التراويح وختم، وقد انحشد أهل المسجد الحرام إليه رجالاً ونساءً، وهو في محرابه لا يكاد يبصر من كثرة شعاع الشمع المحدق به.
ثم برز من محرابه رافلاً في أفخر ثيابه بهيبة إمامية وسكينة غلامية، فلم يستطع الخلوص إلى منبره من كثرة الزحام، فأخذه أحد سدنة تلك الناحية في ذراعه حتى ألقاه على ذروة منبره، فاستوى مبتسماً وأشار إلى الحاضرين مسلماً، وقعد بين يديه قراء، فابتدروا القراءة على لسان واحد، فلما أكملوا عشراً من القرآن، قام الخطيب فصدع بخطبة تحرك لها أكثر النفوس من جهة الترجيع لا من جهة التذكير والتخشيع، وبين يديه في درجات المنبر نفر يمسكون أنوار الشمع في أيديهم ويرفعون أصواتهم بيا رب يا رب.
وفي أثنائها اعترضه ذكر البيت العتيق، كرمه الله فحسر عن ذراعيه مشيراً إليه، ثم ختمها بتوديع الشهر المبارك وترديد السلام عليه، ثم دعا للخليفة ولكل من جرت العادة بالدعاء لهم من الأمراء، ثم نزل وانفض ذلك الجمع العظيم، وقد استظرف ذلك الخطيب واستنبل وإن لم تبلغ الموعظة من النفوس ما أمل، والتذكرة إذا خرجت من اللسان لم تتعد مسافة الآذان.
ثم ذكر أن المعنيين من ذلك الجمع كالقاضي وسواه خُصوا بطعام حفيل وحلوى، على عادتهم في مثل هذا المجتمع، وكانت لأبي الخطيب في تلك الليلة نفقة واسعة في جميع ما ذكر.