بقلم: علي العميم
لا أعلم في أي عام تحديداً في عقد الثمانينات بدأ فؤاد زكريا خوض المواجهة مع فكر الحركات الإسلامية في الصحافة الكويتية. وما أعلمه أنَّها كانت في سنوات منتصفه.
وقد مثّل مع خليل علي حيدر في جريدة (الوطن) ملمحاً بارزاً في مواجهة فكر الحركات الإسلامية. وكانت مقالات فهمي هويدي التي تنشر أسبوعياً في هذه الجريدة وفي أكثر من جريدة عربية تمثل الجبهة المضادة في الدفاع عن فكرها. وأذكر أن فؤاد زكريا اشتبك مع فهمي هويدي بسبب مقال من مقالاته. ومما بقي في الذاكرة قوله في الرد عليه: إن فهمي هويدي يعتذر لعنف الإسلاميين في مصر بصغر سنهم! وإن نقده لهم لا يعدو عن كونه تربيتاً على أكتافهم!
لفتت أنظارنا أنا ومجموعة من الأصدقاء في أواخر عام 1984 دراسات متسلسلة في نقد فكر الحركات الإسلامية، يوالي خليل علي حيدر نشرها في جريدة (الوطن) الكويتية، فكنا نتابعها بإعجاب وشغف. وقد انتهزنا حضورنا لمعرض الكويت الدولي للكتاب فرصة للتعرف إليه، فزرناه في مكتبه في جريدة (الوطن). وانتهزناها فرصة للتعرف إلى فؤاد زكريا، واستقبلنا في بيته. حديثنا تعدى موضوع الحركات الإسلامية وموضوع ظاهرة الشيخ محمد متولي الشعراوي، حيث كتب عنه مقالاً شهيراً في جريدة (القبس) بعنوان (كبوة شيخ) عام 1984، وهو المقال الذي غيّر عنوانه في كتابه (الحقيقة والوهم في الحركات الإسلامية المعاصرة) إلى عنوان آخر وهو (العالم المعاصر عند الشيخ الشعراوي) إلى موضوعات أخرى.
ومن الموضوعات الأخرى، أنني شكوت له معاناتي الذهنية في فهم مقالات مطاع صفدي في مجلة (الفكر العربي المعاصر) التي كان يرأس تحريرها، وكانت تصدر من باريس، قائلاً: مع أنني أقرأ الواحد منها أكثر من مرة إلا أنني لا أفهمها، وهذه المشكلة لا تواجهني في قراءة افتتاحية العدد القصيرة التي يكتبها فأنا أفهمها جيداً، وأفهم ما تيسر من مقالاته المنشورة في جريدة (القبس الدولي)، وكان فؤاد زكريا من ضمن كبار المثقفين الذين كانوا يكتبون فيها.
بثثت شكواي له لأنه يكتب بأسلوب ميسر واضح كل الوضوح لكل القراء مهما تباينت مقدرتهم على الفهم والاستيعاب، حتى حين يكتب عن قضايا فلسفة معقدة. ولأنني كنت أرى اسمه على رأس أسماء هيئة المستشارين في مجلة (الفكر العربي المعاصر).
أجاب فؤاد زكريا ضاحكاً: إنه سبق له أن نقد مطاع صفدي في الإغراب والتعقيد في صياغة الجملة قديماً في مجلة (الآداب) البيروتية في الستينات الميلادية. وشرح لنا أن المثقف الذي يكتب بأسلوب لغوي معقد إما أنه يتعمّد ذلك لإظهار علوّ كعبه في الثقافة والفكر، وإما قد يكون ممن يتظاهرون بذلك. وإما أن يكون ليس هاضماً لتلك المفاهيم والإشكالات النظرية بقدر كافٍ، فيلجأ إلى أسلوب سهل، وهو أسلوب الرطانة الثقافية والفكرية. وإما أن يكون هاضماً لها لكن لغته في الكتابة ليست بمستوى هضمه لها.
الصديق عبد الله المحيميد الذي كان أول كتاب صدر له عام 2000، كتاب (تقشير: قراءة في الثقافة والمجتمع السعودي) جادله حول كتابه (العرب والنموذج الأميركي)، وذكر أن المثقفين اليساريين يعلون من شأن النموذج السوفياتي، وأخذ عليه أنه في هذا الكتيب الصغير لم يفصح ابتداءً عن رأيه في النموذج السوفياتي قبل أن يشرع في نقد النموذج الأميركي.
أكد فؤاد زكريا، في هذه المجادلة، أنه ليس ممن يعلون من شأن النموذج السوفياتي، بل إنه يتحفظ عليه كثيراً. وأنه مع انتمائه للفكر اليساري، إلا أنه لا يأخذ بالمقولات الماركسية بوصفها قوالب جاهزة للتحليل النظري والتطبيق العملي، وأنه بسبب ذلك كثيراً ما نشبت بينه وبين اليساريين المصريين خلافات قوية.
ما أكده هو أمر نعرفه عنه، فمما قرأنا له بدا لنا بصورة مختلفة عن صورة يساريين تقليديين من مصر، ومن بلدان عربية أخرى، كنا نقرأ لهم.
وفي هذا اللقاء معه، لم يفتنا إبداء الإعجاب بكتابه (كم عمر الغضب؟: هيكل وأزمة العقل العربي) الذي كتبه ردّاً على كتاب محمد حسنين هيكل (خريف الغضب) وبدراسته (مستقبل الأصولية الإسلامية: بحث نقدي في ضوء دراسة للدكتور حسن حنفي).
وهذا اللقاء كان لقاءنا الوحيد معه، أما خليل علي حيدر، فبعد لقائنا الأول معه في مكتبه بجريدة (الوطن) التقينا معه مرتين أو ثلاثاً. وكان يستضيفنا فيها على عشاء في فندق من ذات الـ5 نجوم.
خليل علي حيدر في جريدة (الوطن) كان يكتب دراسات وأحياناً مقالات بوقت منتظم. أما فؤاد زكريا فكان يكتب في هذه الجريدة في وقت متقطع.
الفرق بين كتابة خليل علي حيدر وكتابة فؤاد زكريا النقدية عن الإسلاميين أن كتابة الأول كتابة بحثية تفصيلية تتناول ما يقوله الإسلاميون في كتبهم في الشأن السياسي والاجتماعي والاقتصادي والفكري. أما كتابة الثاني فهي تتناول بعض مقولاتهم وبعض مطالبهم بنقاش سياسي واجتماعي وعقلي وثقافي. فهي ليست أبحاثاً في الإسلاميين تنطبق عليها صفة الدراسة. وما تنطبق عليها صفة الدراسة هي – فقط - مراجعته النقدية لسلسلة مقالات حسن حنفي عن (الحركة الإسلامية المعاصرة) التي اصطف فيها الأخير معها بتأويلات قومية ووطنية وتقدمية أسقطها عليها اعتسافاً.
وقد علمت في سنوات متأخرة كثيراً عن تعرفي الشخصي بالكاتب والباحث خليل علي حيدر، أنَّ مقالاته عن (مستقبل الحركة الدينية) التي نشرها في جريدة (الوطن) خلال يونيو (حزيران) وأكتوبر (تشرين الأول) ونوفمبر (تشرين الثاني) 1984 ويناير (كانون الثاني) 1985، وكان وقتها قد أنجز دراسته في أميركا ويستعد إلى العودة إلى الكويت، أن الشيخ عبد الله علي المطوع، أحد المؤسسين لحركة الإخوان المسلمين في الكويت ورئيس جمعية الإصلاح الاجتماعي فيها، مع بداية نشر تلك المقالات، تدخّل لدى محمد مساعد الصالح، رئيس تحرير تلك الجريدة ورئيس مجلس إدارتها، وصاحب الزاوية الصحافية الشهيرة في الكويت (الله بالخير)، بحكم قرابته العائلية به لإيقاف نشرها، لكنه رفض أن يوقف نشرها، رغم أنه كان يجل الشيخ ويقدّره.
إن جابر عصفور اختزل جهد فؤاد زكريا العلمي الرصين وجهده الثقافي الكبير الذي انطلق من الكويت بسبع عشرة كلمة، كلماتها غير دقيقة، ظلم فيها تجربة الرجل في الكويت وظلم الكويت معه.
إجابة عن سؤال المقال السابق: (هل كان فؤاد زكريا ممتحناً بالعداوة في الكويت؟).
أقول: إن الإسلاميين في الكويت سعوا إلى إبعاد فؤاد زكريا عن جامعة الكويت وعن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، لكن باء سعيهم بالفشل. ومناصبتهم العداء له لم تؤثر فيه وعليه سلباً. بدليل أنه أقام في الكويت سنوات طويلة.
وهذا يعني أنه كان مرتاحاً لعمله في جامعة الكويت وفي المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، وأنه يدرك أن ما تحقق له في الكويت، لن يتحقق له إذا عاد إلى مصر.
إن فؤاد زكريا لما استقال من جامعة الكويت عام 1991، استقال أيضاً من الإشراف على سلسلة (عالم المعرفة) التي يصدرها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، لكن المجلس تمنى عليه الاستمرار في الإشراف عليها فوافق. وكان يشرف عليها وهو في مصر إلى ساعة وفاته.
قول جابر عصفور عن نفسه في رثائه لفؤاد زكريا: «فهناك (أي في الكويت) ابتدع مصطلح إسلام النفط أو البتروإسلام الذي أفدت منه. ونقلت عنه في دراستي التي أثارت عليّ ثائرة الكثيرين»، لا يدخل في نطاق الخفة الصحافية التي أورد أمثلة لها من كتاباته، بل يدخل في باب الادعاء العريض. فجابر عصفور حينما أخذ بتعبير فؤاد زكريا (البترو - إسلام) في دراسته (إسلام النفط والحداثة) المنشورة لأول مرة عام 1990، وتوسع بالأخذ به في دراسات ومقالات أخرى، حظي هذا الأخذ بقبول واسع وانتشار كبير لدى مثقفين ونقاد ودارسين وصحافيين عرب.
ولقد رأيت جيرار جهامي وسميح دغيم ورفيق العظم يتعاملون مع تعبيره (إسلام نفط) بوصفه مصطلحاً في كتابهم (موسوعة مصطلحات الفكر النقدي العربي والإسلامي المعاصر) الصادر في مجلدين عام 2004، وهذه الموسوعة من ضمن (سلسلة المصطلحات العربية والإسلامية) التي صدرت منها مجلدات في أجزاء وصدر منها كتب.
وهناك أكاديميان ودارسان خليجيان قبلا بتعبير (البترو – إسلام) وتعبير (إسلام النفط) وتبنياهما.
فخلدون حسن النقيب من الكويت تبنى تعبير (البترو - إسلام) في كتابه (الدولة التسلطية في المشرق العربي المعاصر) الصادر عام 1991، وفي كتابه (صراع القبلية والديمقراطية: حالة الكويت) الصادر عام 1996، وفالح شبيب العجمي من السعودية تبنى تعبير (إسلام النفط) في كتابه (الإنسان المسلم: وضعه القانوني والتاريخي وحقوقه وواجباته) الصادر عام 2009.
وهما ليسا وحدهما في هذا التبني، فهناك غيرهما من المثقفين التحديثيين في بلدان خليجية نفطية كالسعودية والكويت والإمارات يؤمنون بصحة التعبير الذي قال به فؤاد زكريا وقال به بعده جابر عصفور. ويؤمنون بأن الإسلام الممارس في هذه البلدان، خاصة في السعودية، هو إسلام نفطي وإسلام صحراوي!
خلدون حسن النقيب في الفصل الرابع من كتابه (التسلطية في المشرق العربي المعاصر) أحال في استعماله لتعبير (البترو - إسلام) إلى كتاب فؤاد زكريا (الحقيقة والوهم في الحركة الإسلامية المعاصرة) الصادر عام 1986، وكان قد ذكر في مقدمة الكتاب أن الفصل الرابع نشر بالعنوان نفسه (مدخل إلى رواق الهزيمة) في (مجلة العلوم الاجتماعية) – جامعة الكويت الصادرة في خريف 1985، فرجعت إلى أصل النشر في هذه المجلة لأنني قدرت حتماً أنه سيحيل إلى مقالة فؤاد زكريا (البترو - إسلام) المنشورة في جريدة (الوطن)، ويذكر تاريخ نشرها في هذه الإحالة. ففوجئت أن (بترو - إسلام) فؤاد زكريا غير موجود فيها، وفوجئت أن (بترو - إسلام) فؤاد زكريا في الفصل الرابع من كتابه ورد ضمن كلام عن الصحوة الدينية السنية والشيعية، أضافه في الكتاب إلى أصل الدراسة، وهذه الزيادة بلغ عدد صفحاتها ما يقرب من ثلاث صفحات!
ولي عودة إلى الزيادة لمناقشتها بعد أن أضع مقال فؤاد زكريا (البترو - إسلام) على محك النقد.
مقال فؤاد زكريا (البترو - إسلام) المنقودة فيه بالدرجة الأولى السعودية. وحين نشره في جريدة (الوطن) لم يعلّق عليه نقدياً سوى الكاتب تركي السديري رئيس تحرير جريدة (الرياض) في زاويته الأسبوعية (لقاء).
وبعد بضع سنوات من تاريخ نشر دراسة جابر عصفور (إسلام النفط) لأول مرة، ألقى الناقد والدارس منصور الحازمي في المهرجان الوطني للتراث والثقافة عام 1998، ورقة كتبها موضوعها (الثقافة العربية بين الإيجابيات والسلبيات)، قال فيها عن دراسة جابر عصفور: «إن التحامل على دول الخليج وثقافة الخليج قد أصبح للأسف سمة من سمات المثقفين العرب المسيسين والمؤدلجين طوال العقدين الأخيرين، إذ جعلوا النفط سبة وعاراً توصم به هذه الدول الخليجية، ولم يعمموا هذه اللعنة النفطية على الدول البترولية الأخرى مثل العراق وليبيا والجزائر. يتحدث جابر عصفور في مقالة له بعنوان (إسلام النفط والحداثة) عن الصدام الذي حدث في المملكة العربية السعودية بين الحداثيين والإسلاميين، ويحلل تلك الظاهرة تحليلاً ألسنياً غريباً كي يضفي عليه صفة الموضوعية والعمق، ويقوم في المقدمة بشرح هذا المصطلح العجيب إلخ...»...
فأين «الثائرة» في هذا العتب النقدي الأخوي؟!
هذه الورقة نشرتها مجلة (علامات في النقد) في عدد صادر لها في عام 1998، وأعاد نشرها في كتابه (الوهم ومحاور الرؤيا: دراسات في أدبنا الحديث)، الصادر عام 2000.
وفي كتابه (الجوائز الأدبية: الحدود والأقنعة) الصادر عام 1999، قال الناقد والدارس حسين بافقيه: «حتى إن صورة الخليج (المموِّل) في مجال الإنتاج السينمائي قد تكررت في مجال الثقافة والفكر – إلى حد ما – ومارس المثقف العربي الذي يهرول إلى هذه الجوائز الضخمة ثنائيته المعتادة (المركز الهامش)؛ المركز الثقافي التنويري، والهامش الشرِّي الرجعي!! كما وجدت الشعارات الآيديولوجية – كما في بعض النماذج – مجالاً رحباً لممارسة خطابها المشبع بالبلاغيات المكررة: (شراء الذمم والضمائر – البترو/ دولار - البترو/ إسلام – إسلام الصحراء) غير أن رائحة البترو/دولار سرعان ما تغير تلك الشعارات بمجرد الإعلان عن اسم ذلك الأديب، الملتزم آيديولوجياً!!».
أكرر السؤال السابق مع الزيادة فيه: أين «الثائرة» في هذا الكلام؟ وهل في علم الحساب يُصنف عددياً الاثنان بـ«الكثيرين»؟!
هذه مع ملاحظة أن تعرض منصور الحازمي لدراسة جابر عصفور وقبله دراسة كمال أبو ديب أتى بمناسبة اقتراح المهرجان الوطني للتراث والثقافة موضوع الورقة عليه. وأن تعرض حسين بافقيه لمقولة البترو/دولار وإسلام الصحراء في كتابه جاء عرضاً ولم يكن المقصود به الرد المباشر عليها عند جابر عصفور وعند فؤاد زكريا.
إن ما قاله حسين بافقيه مقتبس من فصل من كتابه عنوانه (الفصل المقدّس والمدنّس في الجوائز الأديبة عالمياً)، وفي هذا الفصل كما في بقية الكتاب كان يطبق تحليلاً سيميائياً مستفاداً من أدبيات النقد السيميائي دون أن يتبنى أي موقف جهوي، بل على العكس كان يغلِّف نقده بروح ساخرة، لا تخفى على القارئ. وللحديث بقية.