بقلم: علي العميم
تختلف الجامعات العربية عن جامعات أوروبا وأميركا في أن الأستاذ الجامعي يتلقى عقوبة ليس بسبب ارتكابه جريمة كراهية أو جريمة سرقة، وإنما يتلقاها بسبب رفع دعوى دينية عليه.
وسآتي بأمثلة شهيرة من مصر، واختياري لمصر يرجع لأمرين:
الأول: أن أهلها أنشأوا أول جامعة على الطراز الأوروبي في العالم العربي.
الثاني: أنها كانت السبّاقة في الأخذ بجوانب من التمدن الغربي في السياسة والثقافة والفن والقانون والاجتماع والاقتصاد والمواصلات في محيطها العربي.
المثال الأول: بعد أن حصل طه حسين على درجة الدكتوراه من الجامعة المصرية الأهلية بعد مناقشة رسالته «ذكرى أبي العلاء»، في 15 مايو (أيار) 1914، طبعها في كتاب عام 1915.
هذا الكتاب تسبب في مشكلة له تطرق لها الروائي خيري شلبي في كتابه الوثائقي «محاكمة طه حسين»، فقال عنها:
«وقد بدأت الأزمة حينما تقدم أحد أعضاء الجمعية التشريعية بطعن في هذا الكتاب، يتهم فيه طه حسين بالإلحاد، ويطالب بحرمانه من حقوق الجامعيين، وبسحب شهاداته وإجازاته الدراسية، رغم أن ذلك الكتاب أجازه للدكتوراه ثلاثة من أئمة علماء الأزهر. لكن تلك الأزمة ماتت في مهدها، حيث أخمدها سعد زغلول الذي كان رئيساً للجمعية التشريعية آنذاك، حيث استدعى صاحب الطلب، وأقنعه بسحب طلبه، لأنه يسيء إلى الجامعة المصرية وإلى الأزهر معاً».
أود أن ألفت نظر القارئ إزاء المثال الذي بدأت به إلى المعلومات الثلاث التالية:
«رسالة طه حسين (ذكرى أبي العلاء) كانت أول رسالة علمية قُدّمت في الجامعة المصرية الأهلية بعد إنشائها في عام 1908.
الجمعية التشريعية هي مجلس نيابي أو برلماني (مدني)، وليست جمعية أو هيئة (دينية)!
ترأّس لجنة مناقشة الرسالة محمد الخضري، وناقشها معه محمد المهدي ومحمود فهمي، وهؤلاء الثلاثة يحملون لقب الشيخ، يحملونه بمعناه الديني. وشارك في المناقشة مندوبان من نظارة المعارف العمومية، هما: إسماعيل رأفت وعلام سلامة».
وأود أن ألفت نظر القارئ إلى أن قول خيري شلبي إن الثلاثة من أئمة علماء الأزهر، قول غير دقيق؛ فهؤلاء الثلاثة درسوا في مدرسة دار العلوم، وتخرجوا فيها.
وكانت الجامعة المصرية الأهلية في أول نشأتها استعانت بمدرسين مصريين من مدرسة دار العلوم ومدرسة القضاء الشرعي؛ فمحمد الخضري درّس فيها التاريخ الإسلامي، ومحمد المهدي درّس فيها الأدب العربي، ومحمود فهمي درّس فيها تاريخ اليونان وتاريخ الرومان.
فمدرسة دار العلوم قبل أن تضم إلى جامعة فؤاد (الجامعة المصرية الأهلية منذ عام إنشائها إلى عام 1940. وجامعة القاهرة منذ عام 1953) عام 1946، ويتحول اسمها إلى كلية دار العلوم، هي إدارياً، وفي نمط تعليمها، مستقلة عن جامع الأزهر.
فنوع التعليم فيها كان في منزلة وسطى بين حدّين متباعدين، هما: التعليم المدني كما في الجامعة المصرية الأهلية، والتعليم الديني كما في جامع الأزهر. أو بعبارة أخرى، هو مزيج من هذه التعليمين.
وقد نسبهم سعد زغلول إلى الأزهر، لأنهم كانوا تلقوا تعليمهم في الأزهر في فترة ما قبل دراستهم في مدرسة دار العلوم، واستكمالهم الدراسة فيها في صفوفها العليا. ولأنهم كانوا يرتدون الزي الأزهري، ولم يتحولوا عنه إلى زي الأفندية.
فسعد زغلول مثلاً، رغم أنه حاصل على ليسانس الحقوق من جامعة باريس، كان ينسب نفسه أحياناً إلى الأزهر، لأنه قد درس فيه إلى مرحلة متقدمة، لكنه تركه قبل أن يؤدي امتحان العالميّة. وحينما كان طالباً أزهرياً ألّف كتاباً عن فقه الشافعية. ولقد انسلّ من لقب الشيخ وخلع العمامة الأزهرية عام 1882، ولُقِّب بسعد أفندي. وفي تقديري أن سعد زغلول اتكأ على أزهرية سابقة للشيوخ الثلاثة، ليقنع عضو الجمعية التشريعية أكثر بسحب دعواه ضد طه حسين.
كذلك طه حسين. فحتى مع حصوله على درجة الدكتوراه من الجامعة المصرية الأهلية، وخَلْعه الزي الأزهري في الباخرة «أصفهان» المتجهة إلى مرسيليا، كان يُلقّب رسمياً في جامعته التي ابتعثته بالشيخ. وهذا ما نعرفه من بيان نشره سكرتير الجامعة علي بهجت في الصحف في شهر ديسمبر (كانون الأول) عام 1915، هذا نصه: «اجتمع لدي الأستاذ الشيخ محمد المهدي، والدكتور الشيخ طه حسين، وتكلما في شأن ما نُشر بمجلة (السفور) فيما يخصهما جميعاً، وتفاهما تفاهماً حسناً، واعتذر الشيخ طه حسين إلى الأستاذ الشيخ المهدي عما رآه الشيخ المهدي ماسّاً بكرامته».
وكان طه حسين قد كتب في مجلة «السفور» مقالاً أزرى فيه بتدريس أستاذه السابق للأدب العربي، مقارنة بتدريس أستاذه الفرنسي الجديد في جامعة مونبيليه آنذاك لأدب القصة الأوروبي. فطلب أستاذه القديم إلى مجلس إدارة الجامعة أن تعاقبه، وأن تقسو عليه عند توقيع العقاب على جرمه الشنيع، فتشطب اسمه من قائمة متخرجي الجامعة الذين يتعلمون على حسابها في فرنسا.
القصد من هذا التدقيق نفي انتساب الشيوخ الثلاثة إلى جامع الأزهر الذي لم يكونوا مدرّسين فيه، وليس نفي انتسابهم إلى العلم الديني؛ فالمؤرخ محمد الخضري درّس في مدرسة القضاء الشرعي أصول الفقه. وكان من ثمرات تدريسه لهذا العلم كتاباه: «أصول الفقه» و«تاريخ التشريع الإسلامي». ومحمد المهدي من آثاره الباقية مشاركته في تأليف كتاب «مذكرات في الفقه الإسلامي». وهذان الأستاذان تتلمذا على الشيخ محمد عبده، وهذا يعني أنهما كانا إلى حد ما عصريين.
قال الشيخ رشيد رضا في نعي الأخير: «ومن أكبر الآيات على ذلك تربيته وتعليمه لكريمته أسماء. فقد رباها تربية إسلامية فاضلة، وعلّمها تعليماً عصرياً راقياً. وكان من شجاعته الأدبية أن أرسلها إلى إنجلترا، لإتمام تعلمها واثقاً بدينها وأدبها، فحقق الله ظنه فيها، وهي الآن ناظرة لمدرسة من مدارس البنات الأميرية، تديرها أحسن إدارة».
أما محمود فهمي، فالذين ترجموا له - على قلتهم وقلة معلوماتهم عنه - لم يذكروا أن له مؤلفاً دينياً؛ فهم لم يذكروا سوى كتابيه: «تاريخ اليونان» و«تاريخ الرومان»، وهذان الكتابان أودع فيهما محاضراته الجامعية، وقد طبعهما عام 1910، وهو متوفّى عام 1917.
المثال الثاني: طبع طه حسين كتابه «في الشعر الجاهلي» عام 1926، الذي هو في الأصل محاضرات كان يلقيها على طلابه في الجامعة المصرية؛ فتقدم الشيخ خليل حسنين الطالب بالقسم العالي بالأزهر ببلاغ إلى النائب العام ضد طه حسين لتأليفه هذا الكتاب. وأرسل له شيخ جامع الأزهر خطاباً يبلغ به تقريراً رفعه علماء الجامع الأزهر عن هذا الكتاب.
وبعث له عضو مجلس النواب، عبد الحميد البنان، بلاغاً ثالثاً ضد طه حسين وكتابه. وهذا العضو من حزب الوفد، وكان مجلس النواب في ذلك الحين مكوّناً في أغلبيته من هذا الحزب.
تاريخ البلاغ الأول كان في 30 مايو 1926، وتاريخ البلاغ الثاني كان في 5 يونيو (حزيران) 1926، وتاريخ البلاغ الثالث كان في 14 سبتمبر (أيلول) 1926.
بدأ رئيس نيابة مصر، محمد نور، التحقيق في أقوال المبلّغين في 19 أكتوبر (تشرين الأول) من ذلك العام، ثم استجوب طه حسين. وكان محمد نور قد ذكر في قرار النيابة، أنه نظراً لتغيب الدكتور طه حسين خارج القطر المصري أرجأ التحقيق إلى ما بعد عودته.
التهمة الموجهة لطه حسين في البلاغات الثلاثة هي طعن طه حسين في الدين الإسلامي في مواضع أربعة من كتابه.
بتاريخ 30 مارس (آذار) 1927، صدر قرار رئيس نيابة مصر. وقد جاء في خاتمة قراره هذا الحكم: «وحيث إنه مما تقدم يتضح أن غرض المؤلف لم يكن مجرد الطعن والتعدي على الدين، بل إن العبارات الماسَّة بالدين التي أوردها في بعض من كتابه إنما قد أوردها في سبيل البحث العملي، مع اعتقاده أن بحثه يقتضيها. وحيث إنه من ذلك يكون القصد الجنائي غير متوفر. فلذلك تُحفَظ الأوراق إدارياً».
طه حسين أخبر سكرتيره محمد الدسوقي صاحب كتاب «أيام مع طه حسين» أن محمد نور بعد أن صادر الكتاب طلب منه أن يحذف بعض ما جاء في كتابه عن القرآن، وحذف بعض أجزاء منه، وطبعه طبعة جديدة تحت عنوان جديد هو «في الأدب الجاهلي».
وهنا سأذكر ثلاث معلومات: الأولى والثانية تتعلقان بتاريخ الجامعة المصرية، والثالثة تتعلق بالمصدر الذي اعتمدت عليه في عرض قضية «ذكرى أبي العلاء»، وقضية «في الشعر الجاهلي»، وهو كتاب رؤوف شلبي «محاكمة طه حسين: نص قرار الاتهام ضد طه حسين سنة 1972 حول كتابه (في الشعر الجاهلي)»، الصادر عن «المؤسسة العربية للدراسات والنشر» في بيروت، عام 1972، في سبعين صفحة.
المعلومة الأولى: مع البدء في التحقيق حول كتاب «في الشعر الجاهلي»، يكون مر على انتقال الجامعة المصرية من جامعة أهلية إلى جامعة حكومية سنة وسبعة أشهر وثمانية أيام.
المعلومة الثانية: بعد ضم الجامعة المصرية إلى الحكومة في 11 مارس 1925 «ناقش مجلس الجامعة موضوع هيئة التدريس، وكان من رأي أعضاء المجلس أن أظل في درجة مدرس، ولكن فؤاداً لم يوافق على هذا، رغم أن الخلاف بيني وبينه قد بدأ. ومما قاله إن طه حسين يجب أن يكون أستاذاً».
هذا ما أخبر به طه حسين سكرتيره محمد الدسوقي. وسجلها الأخير في كتابه «طه حسين يتحدث عن أعلام عصره».
المعلومة الثالثة: نشر رجاء النقاش ما كتبه رؤف شلبي عن محاكمة طه في مجلة «الهلال» ثم نشره في كتاب صدر عن «المؤسسة العربية للدراسات والنشر»، وذلك في أول السبعينات الميلادية. وكان في ذلك الوقت إلى جانب عمله الرئيسي يعمل مستشاراً في هذه الدار.
هذه المعلومة ذكرها رؤوف شلبي في مقدمة الطبعة الثانية لكتابه. ومناسبة تزويد القارئ بهذه المعلومة أن موضوع المقالات السابقة والمقال المقبل هو تصدي رجاء النقاش في مجلتي «الهلال» و«الدوحة» في أواخر السبعينات الميلادية للحملة الدينية التي شنها أولاً أنور الجندي، ثم ثانياً عبد المجيد عبد السلام المحتسب على طه حسين في كتابيهما عنه.
المثال الثالث: نوقشت في عام 1947 رسالة «الفن القصصي في القرآن» التي كتبها محمد أحمد خلف الله لنيل درجة الدكتوراه، وأشرف عليها الشيخ أمين الخولي في جامعة فؤاد؛ فاعترض عليها عضوان من لجنة المناقشة، هما: أحمد أمين وأحمد الشايب.
هذه الرسالة أثارت ضجة في تلك الجامعة، ثم انتقلت تلك الضجة إلى مجلة «الرسالة» وجريدة «أخبار اليوم» وإلى وزارة المعارف وإلى جامع الأزهر وإلى الإخوان المسلمين.
سبب الضجة أن كاتب الرسالة يرى أن القصص القرآني يُقصَد به العظة والعبرة، وليس التاريخ، فطبّق على القصص القرآني طريقة الفنون الأدبية. كتب أحمد أمين وأحمد الشايب فيها تقريرين، ورفعاهما إلى عميد كلية الآداب عبد الوهاب عزام. دافع أمين الخولي عن رسالة تلميذه، وطعن في التقريرين، في مقال نشره في جريدة «أخبار اليوم». وردّاً على دفاع محمد أحمد خلف الله عن رسالته في مجلة «الرسالة»، في أكثر من مقال، نشر أحمد أمين تقريره عنها فيها.
كوَّنت الجامعة لجنة تحقيق مكوَّنة من ثلاثة أساتذة؛ فقدمت هذه اللجنة تقريراً أيَّدت فيه ما جاء في تقريري أحمد أمين وأحمد الشايب، فرفضت الجامعة الرسالة. وطُلِب من صاحبها أن يكتب رسالةً بديلة عنها، فكتب رسالة موضوعها «صاحب (الأغاني): أبو الفرج الأصفهاني الراوية» نال عنها درجة الدكتوراه. وعوقب بنقله إلى وظيفة إدارية في وزارة المعارف، وعوقب أمين الخولي المشرف على رسالته التي أثارت ضجة، بمنعه من تدريس تفسير القرآن، ومن الإشراف على رسائل في الدراسات القرآنية وفي الدراسات الإسلامية، وقصر عمله على تدريس الأدب.
ومع التسريبات المنشورة في الصحف عن موضوع الرسالة، قالت جبهة علماء الأزهر عن الرسالة: إنها أشد شناعة من وباء الكوليرا. وقالت جريدة «الإخوان المسلمين» الأسبوعية: «إذا ثبت أن ما نقل عن رسالة الفن القصصي في القرآن الكريم قد ورد كما نقل، فلا يكفي أن يحرقها مؤلفها بيديه، أو بيدي غيره، على مرأى ومشهد من الأساتذة والطلاب، بل لا بد أولاً أن يعلن رجوعه إلى الإسلام، ويجدد عقد نكاحه على زوجته، إن كان متزوجاً، وأن يقوم به من ارتكب جريمة الردة عن دين الإسلام».
وكان البعض، كما ورد في مقال لتوفيق الحكيم - الذي ناصر الرسالة - نشر، في جريدة «أخبار اليوم»، أنه قد طالب كاتبها بحرقها، على مرأى ومشهد من أساتذة كلية الآداب وطلابها. وللحديث بقية.