بقلم - علي العميم
لم تكن خطب غلادستون مجهولة عند بعض الأدباء والصحافيين في مصر الذين كانوا يقرأون بالإنجليزية، سواء أكانوا مصريين أصلاً، أم من الشوام المتمصرين. وقد حظيت بعض خطبه - وذلك في حدود اطلاعي - بتلخيصات في جريدة «المشير»، حين إلقائه لها.
وسآتي بمثال مما قاله محمد لطفي جمعة عن غلادستون، في مقال من مقالات كتابه «حياة الشرق، دوله وشعوبه، وماضيه، وحاضره»، الصادر في عام 1932.
أهمية هذا المثال الذي سآتي به أنه يخدمنا على أكثر من صعيد، لأنَّ صاحبه المحامي والمثقف والمترجم، محمد لطفي جمعة، ذو نزعة إسلامية وأدبية وثقافية محافظة. كما أنَّه ناشط سياسي في الحزب الوطني، الذي هو حزب موالٍ للأتراك، ومعادٍ للإنجليز.
المثال هو تعليقه على ما قاله غلادستون في خطبة ذكر أنه ألقاها في 17 مارس (آذار) 1880 في أدنبرج (الصحيح أن Edinburgh تنطق «إدنبره» وليس «أدنبرج»). وكان مرجعه في الإحالة إلى هذا القول جريدة «التايمز» التي نشرت الخطبة في اليوم التالي لإلقائها.
يقول معلقاً على قول غلادستون في خطبته هذه بعد أن أورد قوله: «إنك لا تسمع وزيراً يتكلم، ولكنَّك تسمع كاهناً أو واعظاً يبشِّر! وهو مقتنع أعظم اقتناع، بل مؤمن الإيمان كله. رجل خالط حب المستعمرات لحمه ودمه وملك قلبه وروحه، وهو يعتقد أنَّ مأمورية الاستعمار ليست عملاً سياسياً ينطوي على مصالح عادية، بل إنه أمانة وتكليف سماوي، كما كان يعتقد ملوك فرنسا وإنجلترا أنهم إنما يحكمون الشعب بـ(اسم الله وإرادته)، وكما كان يعتقد إمبراطرة (هكذا يجمع محمد لطفي جمعة وبعض كُتّاب عصره الاسم المفرد، إمبراطور) الصين أنهم أبناء السماء. ومَن هو الذي يتكلم؟ هو غلادستون رئيس أحرار إنجلترا العظيم، الذي رسم بهذه الخطبة خطة الاستعمار، لا لحزبه فقط، بل لجميع الأحزاب السياسية، محافظين وأحراراً وغيرهم، كما أثبتت لنا الحوادث».
الصعيد الأول الذي يخدمنا فيه هذا المثال، هو لو أن غلادستون في خطبه أعلن العداء للإسلام وأساء إلى نبيه، كما ادعى ذلك الدكتور يوسف حسين عمر، لكان محمد لطفي جمعة نصّ على ذلك، وهو يتحدَّث عن تناقض ذلك القول مع الفكروية الليبرالية، ومع المنطق السياسي الدنيوي.
أما الصعيد الثاني، وهو أن أصحاب الاتجاه الإسلامي في العالم العربي الذي نشأ قبل بزوغ الإسلام السياسي الحركي، كان معظمهم يتحرون الصدق والموضوعية في الطرح. وكانوا يحرصون على أن يتوفر في طرحهم مستوى علمي، على عكس أصحاب الإسلام السياسي الحركي الذين يكتظ خطابهم بالعامية والسطحية والمبالغة والتهويل والأكاذيب والغوغائية والديماغوجية. والديماغوجية من مستلزماتها تشويه الحقائق.
وأما الصعيد الثالث، فإنَّه قد مرّ بنا في مقالة سابقة قول جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده - بغرض المدح -: «يبلغ الرجل منهم أعلى درجة في الحرية كغلادستون وأضرابه، ثم لا تجد كلمة تصدر عنه إلا وفيها نفثة من روح بطرس الراهب، بل لا ترى روحه إلا نسخة من روحه. ومرَّ بنا توهُّم رشيد رضا - في معرض مدحه لغلادستون - أنَّه كان قسيساً، ومدحه له بأنَّه من أشد الخلق تديناً، بل تعصباً.
هذا المدح لانغمار غلادستون في التدين المسيحي، كان من أجل الرد على دعوة النهضويين الليبراليين العرب إلى ضرورة فصل الدين عن السياسة، في حين أن محمد لطفي جمعة تهكم على اعتبار غلادستون اتحاد البريطانيين بالتعلق بمملكتهم وإمبراطوريتهم أمانة وتكليفاً إلهياً! وأن هذه الأمانة أعظم وأخص ما كلف به فريق من الجنس البشري! وتهكم من قوله: «ولن تسمح نفسي (يقصد التكليف الإلهي العظيم والخاص بالشعب البريطاني!) بالتنزل به إلى مستوى الجدل السياسي، لأنه جزء من لحمي ودمي ومن قلبي وروحي. ولأجل بلوغ هذه العقيدة وهذا القيام المقدس حييت، وبهذه العقيدة والقيام المقدس سوف أقضي بينكم».
عاب عليه هذا الكلام، لأنَّه تكلم فيه بمنطق رجل الدين، لا بمنطق رجل السياسة.
مردّ الخطأ الذي وقع جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا فيه لا يرجع فقط لاستغلالهم غلبة روح التدين على غلادستون، خطاباً وسلوكاً، لغاية سجالية، بل هناك سبب آخر، وهم معذورون فيه.
هذا السبب هو أنهم في أخريات القرن التاسع عشر لم يعلموا بأن العلمانية في صورتها الليبرالية في إنجلترا كانت في طور تشكُّل وصعود طوال القرن التاسع عشر.
ولمعرفة نشأة الأحزاب في إنجلترا في القرن التاسع عشر، وصعود العلمانية في هذين الحزبين، ودرجة العلمانية في إنجلترا في النصف الثاني من هذا القرن، وطبيعة علاقة الكنيسة الكاثوليكية والكنيسة الإنجلكانية بالدولة، والبعد الديني في حزب الأحرار، سأستعين بكتاب «الديمقراطية والدين: غلادستون وحزب الأحرار 1867 - 1875»، للمؤرخ البريطاني جون باري، وكتاب «حياة دزرائيلي»، للأديب الفرنسي أندريه موروا، ومقالة «صعود العلمانية في القرن التاسع عشر» لجيسِّي الفاريز.
استعانتي بالكتاب الأول ستكون من خلال مقتطفات من مراجعة منشورة في مجلة «الكنيسة والدولة» قام بها جيفري فون آركس. وقد ترجم لي هذه المقتطفات مشكوراً الصديق الأستاذ أحمد الشنبري. كما ترجم لي مقتطفاً من تلك المقالة.
وقبل أن أشرع في النقل من الكتاب الأول ومن الكتاب الثاني ومن المقالة، أوضح أن حزبي «الويغ» و«التوري» اللذين سيتم الحديث عنهما تغير اسمهما. الحزب الأول الذي هو موالٍ للبرلمان تغير اسمه إلى حزب الأحرار، والحزب الثاني الذي هو موالٍ للملك تغير اسمه إلى حزب المحافظين، وذلك ابتداءً من أول ثلاثينات القرن التاسع عشر.
يقول الكتاب الأول: «لم تكن هناك أحزاب سياسية في بريطانيا عند بداية القرن التاسع عشر. كان السياسيون يدعون أحياناً بالـ(ويغز) Whigs أو الـ(توريز) Tories. وهذان المصطلحان يعودان إلى أواخر القرن السابع عشر، عندما كان مصطلح (ويغز) يُستعمل لنعت السياسيين الذين عارضوا السياسات الدينية التي نهجها تشارلز الثاني. أما الذين أيدوه فقد سُمّوا (توريز).
وقد استخدم هذين المصطلحين بوصفهما نعتين غير مشرفين. فكلمة (ويغ) استعملت لوصف لصوص الخيل في أسكوتلندا، ثم ارتبطت في زمن متأخر بعدم الالتزام الديني. أما كلمة (توري) فهي آيرلندية. وتعني قاطع طريق كاثوليكياً.
في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، أصبحت كلمة الـ(ويغز) تشير إلى مَن يميلون نحو دعم الإصلاحات المعتدلة، بينما الـ(توريز) كانوا ينحون منحى المحافظة على الوضع الراهن.
أما النصف الثاني من القرن التاسع عشر، فقد شهد الصراع بين سياسيين بارزين، هما: غلادستون ودزرائيلي، اللذين مثَّلا هذين الاتجاهين المتعارضين».
ويقول الكتاب الثاني: «ففي سنة 1668 سنة الثورة التي أبعدت عائلة ستيوارت عن الحكم أُطلق اسم (الهويغ) على أعداء العرش من كبار السادة الذين كانوا يغارون من العرش ومن الأسكوتلنديين المتشددين في تطهير الدين من خصوم الكنيسة القائمة، وهو اختصار من كلمة (هويغامور). وهو اسم جماعة الفلاحين الذي ثاروا في غرب أسكوتلندا. فكان معنى الاسم يدل على العداء للملك، وأطلق هؤلاء على خصومهم من أنصار الملك اسم (توري)، وهو اسم يُطلق على قطاع الطرق في آيرلندا، وذلك لكي يدل على أن خصومهم ليسوا إلا أتباعاً للبابا، وأنهم لا يقلون حقارة عن الآيرلنديين. وكما يحدث كثيراً، قابل الذين أُطلقت عليهم هذه الأسماء بالفخر، وصارت نداء حرب لهم. انتهى ما كان يفصل حقيقة بين الحزبين بانتهاء حكم آل ستيوارت، ولكن الأحزاب تعيش بعد موت المبدأ الذي تخدمه، وظلت بعض العائلات الكبرى من نسل الثائرين تتوارث تقاليد (الهويغ)، وهي تقاليد الاستقلال والمناهضة للتاج والتحالف مع رجال المذاهب الدينية المعارضة، وكثيراً ما اعتنق هؤلاء مبادئ حرة خالصة. وفي الوقت ذاته ظل السواد الأكبر من صغار السادة في القرى وأصحاب الزراعات محافظين من (التوري)، مخلصين للملك والكنيسة القائمة».
يقول الكتاب الأول: «كان دفع العُشْر Tithes، ضريبة زكاة فرضت على جميع مواطني آيرلندا لدعم القساوسة القائمين على الكنيسة (كاثوليكية وإنجليكانية)، أمراً مبغضاً من قبل الآيرلنديين، خصوصاً أن ما يفرض عليهم يذهب إلى كنيسة المستعمر الإنجليزي. وأدى ذلك إلى ثورة وعصيان في عامي 1830 و1831 من قبل الفلاحين الآيرلنديين ضد الضريبة، وضد من قبل بدفعها من الآيرلنديين الكاثوليك. واستمرت المعارضة حتى عام 1838. وعندها ألغيت الضريبة العشرية على الفلاحين الصغار، وتحولت جبايتها إلى الملّاك الكبار لصالح الحكومة الإنجليزية».
يقول مراجع الكتاب الأول جيفري فون آركس: «كانت الفترة التي يتحدث عنها هذا الكتاب من أكثر الفترات المهمة المحيرة في الحياة السياسية البريطانية (قانون الإصلاح لعام 1867، وسقوط ولاية غلادستون عام 1874). قبل هذه الدراسة الموثقة كان هناك ميل بين الباحثين إلى التقليل من شأن الرابط بين الآيديولوجيا والسلوك السياسي لحزب الأحرار، والتأكيد بدلاً من ذلك على المناورات السياسية داخل قصر وستمنستر.
نجح باري في الكشف بجلاء عن أهمية ما يفعلون، بحيث إن ما قالوه في خطبهم تمثل في الفرق بين ليبراليي الويغز من جهة، وغلادستون وعلية القساوسة الليبراليين الكاثوليك (الذين كان معظمهم غير ملتزمين دينياً ومتطرفين سياسياً من ناحية احترام الحقوق والحريات، ومتطرفين قومياً ضد الإنجليز لاستعمارهم لآيرلندا) من جهة أخرى.
كان ليبراليو (الويغز) يميلون بعض الشيء نحو ضرورة الإشراف الحكومي على الحياة الدينية لكبح جماح الديماغوجيين الفوضويين والقساوسة. أما غلادستون وأتباعه فقد سعوا إلى إطلاق عقال الطاقات الدينية وتحريرها من تدخلات الدولة. ونظروا بعين الشك تجاه إشراف الدولة عليها، حيث فسروه بأنه قمع للتدين الرسمي».
يرى جيسِي الفاريز أنَّ علمنة إنجلترا في القرن التاسع عشر كانت متعددة الأسباب، وأنَّ هناك عوامل شاركت في هذا النهج. ويرجع صعود علمانيتها إلى الآثار الناجمة عن «ما بعد التنوير»، وبالتحديد الفلسفة الإنسانية المتمثلة في انتشار فكرة الدين الطبيعي من خلال العقل، ورفض المعرفة الدينية عن طريق الوحي والكنيسة، إضافة إلى الميل نحو فلسفة الجماليات التنويرية. ويرجعها إلى العلوم وفلسفة فقه الدين الطبيعي - فلسفة فقه الدين الطبيعي التي حاولت الكنيسة استخدامها لقمع العلمانية - اللذين أديّا - بالفعل - إلى الإسراع بعملية العلمنة. ويضيف قائلاً: «يجب أن نعي أن العلوم كانت أكثر العوامل فعالية في علمنة إنجلترا في القرن التاسع عشر، من الفلسفة الإنسانية لعصر التنوير».
لرفع الالتباس في الاقتباس من الكتاب الأول، ومن الكتاب الثاني، فأحمد الشنبري - كما ترون - يترجم اسم الحزب الأول «whigs» إلى «ويغز»، وحسن محمود مترجم الكتاب الثاني يترجم اسمه إلى «الهويغ»، أقول: كنتُ أخبرت الأستاذ أحمد أن حسن محمود وراشد البراوي في كتابه عن دزرائيلي وآخرين يترجمون اسمه إلى «الهويغ»، فقال لي: «إن الخطأ في هذه الترجمة أنها لم تتنبه إلى أن حرف H الهاء، يُكتب ولا ينطق. وجذور هذه الكلمة تعود إلى بداية القرن السابع عشر وهي اختصار لكلمة Whiggamore. وتعني راعي البقر في غرب أسكوتلندا. حزب (الويغز) كان يدعو للحد من سلطات النظام الملكي. وقد دعم الثورة الأميركية، واستقلال أميركا عن بريطانيا. وفي أميركا نشأ حزب باسم (الويغز) بين عامي 1833 و1856، ثم اندثر».
وسألته: لماذا ترجم اسم حزب «التوري» إلى «التوريز»؟ فأجاب:
«Tories» بالجمع تعني شيعة حزب التوري أو أتباعه. ورسمياً توري هي حزب التوري. والتوريز تعني جماعة الحزب. والاستعمال الدارج لتوريز يعني أتباع حزب التوري.
أما مفردة توري (Tory)، فهي ذات جذور آيرلندية، وتعني «الأفّاق» و«قاطع الطريق»، و«الخارج على القانون»، و«الخسيس» و«الكاثوليكي»، و«البابوي النهّاب».
وفي أميركا كانوا يسمون الداعمين للتبعية البريطانية (توريز) Tories. وكانوا مكروهين من قبل دعاة الاستقلال الأميركي. وللحديث بقية.