بقلم: علي العميم
تحدثت في المقالين السابقين عن لقاء سري جرى بين رجاء النقاش ومحمد محمد حسين في مجلة «الآداب» البيروتية عام 1957. وسأتحدث الآن عن ثلاثة لقاءات بينهما حصلت في أواخر السبعينات الميلادية، وكانت من نوع مختلف.
كان اللقاء الأول في مجلة «الهلال»، وكان اللقاء الثاني واللقاء الثالث في مجلة «الدوحة». وفي اللقاء الثالث كان قد صرَّح باسم محمد محمد حسين.
في 1 مايو عام 1977، خرجت مجلة «الهلال» بغلاف لم تشهد في تاريخها ما يدنو منه في الشبه، منذ أول عدد صدر منها في عام 1892، ولم يتكرر مثله إلى يومنا هذا.
الغلاف كان جداً مثيراً ولافتاً. صورة طه حسين تعلوه وهو جالس في مكتبه يسحب نفساً عميقاً من سيجارة، ورافعاً رأسه إلى أعلى قليلاً في لحظة تأمل وتفكّر.
وفي منتصف الغلاف كتب بعنوان عريض «طه حسين في قفص الاتهام».
وتلت هذا العنوانَ العريضَ أسئلةٌ مكتوبةٌ بطريقة عمودية، هي كالتالي:
هل كان طه حسين ملحداً؟
هل كان طه حسين شيوعياً؟
هل كان طه حسين عميلاً لفرنسا؟
هل كان طه حسين عدواً للعروبة؟
هل انضم طه حسين للوفد خوفاً من الشعب؟
في صفحة 152 من ذلك العدد كتب فوق العنوان العريض «قضية الشهر»، وكتب تحته «بقلم رجاء النقاش».
يبتدئ رجاء النقاش مقاله بالتوطئة التالية:
«قضية الشهر هي هذا الكتاب الذي صدر ليهاجم طه حسين أعنفَ الهجوم، بل إن هذا الكتاب الجديد يعتبر مذبحة كاملة لطه حسين، فهو يتهمه بعنف في دينه وأدبه و وطنيته وأخلاقه».
يبتدئه بهذه التوطئة، ليقول في مقدمته، ما يلي:
«في أوائل العام الماضي وبالتحديد في شهر مارس سنة 1976، تكون خمسون عاماً قد مرَّت على ظهور كتاب (في الشعر الجاهلي) للدكتور طه حسين، وهو الكتاب الذي أثار عاصفة فكرية عنيفة لم يشهد العصر الحديث مثيلاً لها في ميدان الفكر العربي، وفي أواخر العام الماضي أيضاً ظهر كتاب جديد بعنوان (طه حسين في ميزان الاسلام)، للأستاذ أنور الجندي، وفي هذا الكتاب تجديد وتوسيع لمعركة (الشعر الجاهلي)، فالأستاذ أنور الجندي يعود إلى ترديد الاتهامات التي تعرض لها طه حسين عند إصدار كتابه (في الشعر الجاهلي)، وعلى رأس هذه الاتهامات أنه ملحد، وأنه يطعن في الإسلام، ويتهم القرآن الكريم بالتناقض مع الحقائق العلمية. على أن الأستاذ أنور الجندي لا يكتفي بترديد ما ثار ضد طه حسين عند صدور كتابه (في الشعر الجاهلي) من اتهامات عنيفة بل يتوسع في اتهام طه حسين إلى أبعد الحدود، ويجعل من كتابه الجديد مذبحة لطه حسين وحملة شاملة على فكر طه حسين كله، وعلى مواقفه وآرائه كلها، دون الاقتصار على محاسبة طه حسين من خلال كتابه (في الشعر الجاهلي) وحده».
وبعد أن يجمل اتهامات أنور الجندي لطه حسين يعلق قائلاً:
«والحقيقة أن هذا الكتاب هو أخطر (عريضة اتهام) ظهرت في المكتبة العربية ضد طه حسين، سواء في حياته أو بعد موته، فلا تكاد صفحة واحدة من هذا الكتاب تخلو من هجوم عنيف حاد على طه حسين، واتهامه بأقسى التهم وأعنفها على الإطلاق».
مقال رجاء النقاش الذي جاء في ثلاثين صفحة من ذلك العدد، حوى ردّاً على كل تهمة وجهها أنور الجندي إلى طه حسين, وكان من بين ما أجمله رجاء النقاش من تهمه لطه حسين التي لم ترد في أسئلته المكتوبة بطريقة عمودية، أنه عميل للصهيونية يفضِّل مصالحها على مصالح أمته، وأنه مرتد عن الإسلام واعتنق المسيحية في أحد كنائس فرنسا!».
وكان ردّه على التهمة يأتي بعد أن يعرضها بنصها من كتاب أنور الجندي (طه حسين: حياته وفكره في ميزان الإسلام)، وهذا هو عنوان الكتاب الكامل الذي اختصره رجاء النقاش.
وقبل ذلك كان قد لخّص صدامات طه حسين مع أطراف متعددة وفي ميادين متنوعة تحت عنوانين هما: (طه حسين: عاصفة فكرية) و(ماذا يعني هذا الصراع في حياة طه حسين؟).
في عدد مجلة «الهلال» التالي، عدد 1 يونيو (حزيران)، أكمل رجاء النقاش ردوده على تهم أنور الجندي لطه حسين، والتي جاءت في تسع عشرة صفحة من هذا العدد.
يحسب لرجاء النقاش أنه في مقاله (طه حسين في قفص الاتهام) ذي الجزئين أنه أول مثقف في العالم العربي تنبه إلى خطورة كتاب أنور الجندي (طه حسين حياته وفكره في ميزان الإسلام) ويحسب له أنه لم يهوِّن من شأنه اعتماداً على أن صاحبه مؤلف وكاتب، لا تُومئ إليه الأصابع، ولا يُرمى بالأبصار في محفل المثقفين والأدباء المصريين، رغم كثرة مؤلفاته ووفرة مقالاته في المجلات الأدبية في الخمسينات والستينات وأول السبعينات.
ومع تثميني لالتفاتة أستاذنا الراحل المبكرة وإعجابي بسعة اطلاعه وقوة محاججته وعمقها في موضوع مقاله، فإن هذا التثمين والإعجاب لن يمنعاني من الإشارة إلى أنه وقع في خطأ في جزئية صغيرة وردت في مقدمته. تتعلق بالغاية التي من أجلها ألّف أنور الجندي كتابه عن طه حسين، والتي حددها بأن أنور الجندي أراد من كتابه تجديد معركة «الشعر الجاهلي» وتوسيعها.
هي جزئية صغيرة لكنها مهمة.
فلو راجع بعض كتب أنور الجندي في مجال الأدب العربي الحديث وترجماته لأعلامه، أو راجع كتابه الشهير (المعارك الأدبية) الصادر عام 1959، سيجد أنه لم يوجه في هذا الكتاب وفي كتبه الأخرى في ذلك المجال أي انتقاد جذري إلى طه حسين، بل كان يكتفي بدور العارض والجامع في الحديث عنه وعن سواه من أهل التحديث الفكري الذين هم أيضاً ابتداء من منتصف السبعينات الميلادية لن يكف عن الطعن الديني بهم باسم الأسلمة والتأصيل ومواجهة الغزو والتغريب والاستشراق والتبعية والمؤامرة الغربية على الإسلام... إلخ.
حينئذ يسأل نفسه: لماذا تخلى أنور الجندي عن هذا الدور في مرحلة متأخرة جداً من حياته الأدبية والفكرية، فصنع كتاباً عن طه حسين بُعيد وفاته ببضع سنين، كتاباً لا يعد ما جاء فيه (نقداً)، فما جاء فيه – كما عبر هو بدقة – «مذبحة كاملة لطه حسين»؟
ربما لو كان سأل نفسه هذا السؤال، لما كان حكم على غاية أنور الجندي من تأليف ذلك الكتاب، حكماً ظاهرياً.
هذا السؤال الذي فات رجاء النقاش أن يطرحه على نفسه، ولكن سأجيب عن هذا في الأسبوع المقبل بعد أن أضيف إليه ثلاثة أسئلة تدور في فلكه.