بقلم : علي العميم
يتفق عبد العظيم حماد – من دون أن يعلم بذلك – مع الكتابات الإسلامية الأصولية التي تعرضت لمؤتمر «الثقافة الإسلامية وعلاقتها بالعالم المعاصر» بالذكر في إدانة هذا المؤتمر. فهو يدينه باعتباره قناة متجددة للاتصال بين الإخوان المسلمين وأميركا حدثت تحت غطاء أكاديمي بحت، لمقاومة الشيوعية. أما هي فتدينه لسبب مختلف. ولو كان يعلم بأنها كانت تدينه قبله بعقود طويلة، ربما لما كان ألصق الإخوان المسلمين بذلك المؤتمر اعتباطاً.
ولمعرفة السبب المختلف لا حاجة إلى استعراض ما جاء في تلك الكتابات؛ لأنَّ ما جاء فيها هو نقل مقتضب مما كتبه محمد محمد حسين عن ذلك المؤتمر بإفاضة.
وبما أن الأمر كذلك، فمعرفة السبب المختلف ستكون من خلال هذا المصدر الأصلي عند الإسلاميين. وقبلها سأمهّد لمعرفته بسرد معلومات عن تاريخ ما كتبه محمد محمد حسين عن ذلك المؤتمر.
بعد ترجمة محمد خلف الله أحمد، عميد كلية الآداب في جامعة الإسكندرية، وقتها، لأبحاث مؤتمر «الثقافة الإسلامية في علاقتها بالعالم المعاصر» إلى اللغة العربية في كتاب عنوانه «الثقافة الإسلامية والحياة المعاصرة» عام 1956، كتب زميله محمد محمد حسين، أستاذ الأدب العربي بجامعة الإسكندرية، مقالاً في مجلة «الأزهر» نُشر في عددي مارس (آذار) وأبريل (نيسان) عام 1957م، هاجم فيه ذلك المؤتمر وعدداً من أبحاثه هجوماً دينياً عنيفاً. وكان عنوان مقاله «الثقافة الإسلامية والحياة المعاصرة». أي العنوان نفسه الذي اختاره محمد خلف الله أحمد للكتاب الذي ترجم فيه أبحاث المؤتمر إلى اللغة العربية.
وفي 1 من شهر أبريل في ذلك العام نشر المقال أيضاً في مجلة «الآداب» البيروتية!
وعلامة التعجب هذه تحتاج إلى إيضاح. وهذا الإيضاح سيأتي في حينه.
مقال محمد محمد حسين المنشور في مجلة «الآداب» نُشر في باب ثابت من أبواب المجلة، وهو باب «النتاج الجديد».
وما يختلف نشره في مجلة «الأزهر» عن نشره في مجلة «الآداب»، إضافة إلى تجزئة المقال إلى جزأين نُشرا في عددين متتاليين، أن نشره في مجلة «الأزهر» تضمن تعليقين في الهامش على عرض محمد محمد حسين في المتن لبحث آصف علي فيضي «القانون الإسلامي واللاهوت في الهند: مقترحات لاتجاه جديد»، وتعليقاً واحداً في الهامش على عرض محمد محمد حسين في المتن لبحث نبيه أمين فارس «العرب وتاريخهم».
فتعليقاً على قول محمد محمد حسين في المتن «ومن هذه النماذج لثمار الجهود الاستعمارية أيضاً الدكتور آصف علي فيظي سفير الهند السابق في مصر»، كُتب في الهامش «هو إسماعيلي من أصحاب العقيدة الباطنية، والإسماعليون فرقتان: إمام الفرقة الأولى منها أغاخان، وإمام الفرقة الأخرى طاهر سيف الدين، وآصف علي فيضي – أو فيظي كما ينطقونه بعجمتهم – هو من الفرقة الثانية».
وتعليقاً على قول محمد محمد حسين في المتن عن آصف علي فيضي «ويقرر أن قوانين الشريعة يجب أن تندثر أو تخضع لأساليب التقنين الغربي الحديث»، كُتب في الهامش «كما حاول أسلاف فيظي أن يحلّوا رسائل إخوان الصفا محل القرآن، وإلى هذا اليوم تقول هذه الفرقة من الإسماعيليين: إن القرآن، كتاب العامة كما أن رسائل إخوان الصفا كتاب الأئمة. أي أئمة الإسماعيلية».
وتعليقاً على قول محمد محمد حسين في المتن «وأما الدكتور أمين فارس، رئيس قسم التاريخ بالجامعة الأميركية في بيروت، فهو ينادي بأن الدراسات الإسلامية يجب أن تسير على نمط دراسات المستشرقين فيما يسميه (المنهج العلمي) لتميز بين الحقيقة والأساطير»، كُتب في الهامش «والذي يقرر هذا الوجوب على الإسلام لا صلة له بالإسلام. فهلّا تطوع بهذا الوجوب لعقائد الطائفة التي ينتسب إليها؟».
هذه التعليقات كانت منسوبة إلى مجلة «الأزهر» لا إلى محمد محمد حسين.
آصف علي أصغر فيضي (1899 – 1981) أستاذ جامعي ومثقف وقاضٍ ودبلوماسي من الهند. ويعد من رواد الدراسات الإسماعيلية الحديثة. درس القانون في كلية سانت جونز في جامعة كمبريدج. كان السفير الثاني للهند في مصر بين عامي 1948 و1952. وفي أثناء عمله هذا حقق كتاب القاضي النعمان قاضي الدولة الفاطمية «دعائم الإسلام»، وهو الكتاب الفقهي التشريعي الأساسي عند الطائفة الإسماعيلية. وكلك يرجع الشيعة الاثني عشرية إليه في فقههم على نحو عام.
أخرج الجزء الأول من هذا الكتاب عن دار المعارف بالقاهرة عام 1951، وأخرج الجزء الثاني منه عن الدار ذاتها عام 1960.
من أشهر مؤلفاته: «موجز القانون الإسلامي» و«منطلق حديث لفهم الإسلام» و«قضايا قانونية في الفقه الإسلامي في الهند وباكستان وبنغلاديش» و«معجم القانون الفاطمي».
أما نبيه أمين فارس (1906 – 1968) فهو فلسطيني من أصل لبناني. ومن حيث الديانة هو مسيحي بروتستانتي. وهو أستاذ جامعي ومؤرخ ومفكر قومي عروبي. حصل على بكالوريوس في الآداب والتاريخ عام 1928 من الكلية السورية البروتستانتية (الجامعة الأميركية فيما بعد)، وحصل على الدكتوراه في اللغات الشرقية وآدابها من مدرسة اللاهوت في جامعة برنستون. ودرّس في هذه الجامعة وكان مسؤولاً عن المخطوطات العربية في مكتبتها إلى عام 1945. ثم شغل منصب رئيس مكتب المعلومات الحربية في نيويورك. عاد إلى بيروت أستاذاً زائراً في التاريخ الإسلامي في الجامعة الأميركية. ثم تولى رئاسة دائرة التاريخ فيها من عام 1947 إلى عام وفاته.
مؤلفاته هي: «غيوم عربية»، و«العرب الأحياء»، و«من الزاوية العربية»، و«دراسات عربية»، و«هذا العالم العربي: دراسة في القومية العربية وفي عوامل التقدم والتأخير والوحدة والتفريق»، واشترك معه في تأليف هذا الكتاب محمد توفيق حسن.
ومن أشهر ترجماته اشتراكه مع منير البعلبكي في ترجمة كتاب كارل بروكلمان «تاريخ الشعوب الإسلامية»، وترجمته لكتاب برنارد لويس «العرب في التاريخ».
مقال محمد حسين «الثقافة الإسلامية والحياة المعاصرة» المنشور في مجلة «الأزهر» كان من ضمن سلسلة مقالات كتبها لهذه المجلة ما بين عام 1956 وعام 1957 وعام 1958، حمل معظمها عنواناً ثابتاً وهو «حصوننا مهددة من داخلها».
بحسب ما يروي محمد حسين في مقدمة طبعة كتاب أنا بصدد الحديث عنه، أن الشيخ عبد المهيمن أبو السمح إمام الحرم المكي أستأذنه في نشر بعض تلك المقالات مجموعة في كتاب فأذن له.
جمع الشيخ عبد المهيمن أبو السمح أربعة مقالات منها كانت قد نشرت عام 1957، لم يكن من بينها مقال «الثقافة الإسلامية والحياة المعاصرة»، في كتاب طبعه على نفقته الخاصة، وكان هو ناشره، تحت عنوان «في وكر الهدامين».
في دراسة لي نشرت في مجلة «المجلة» عنوانها «خاطرات حول تسميات أوروبية وأميركية وشيوعية تسللت إلى قاموس الإسلاميين» قدمت فيها وصفاً لهذا الكتاب؛ لأنه كتاب نادر، رجّحت أنه طبع إما في سنة 1958، وإما في أول سنة 1959.
هذا الكتاب مع أن ناشره طبعه مرة أخرى في مطبعته نهضة مصر – هذه النسخة من هذه الطبعة تعد أيضاً نسخة نادرة – إلا أنه لم يذع عند الإسلاميين. وقد رجحت في الدراسة التي أشرت إليها أن هذه النسخة طبعت في أول الستينات.
في مقدمة الطبعة التي أومأت إليها آنفاً، يقول محمد محمد حسين: إن الكتاب لسوء الحظ صدر مليئاً بالأخطاء. وهو هنا لا يقول السبب الحقيقي تلطفاً بناشره الشيخ عبد المهيمن أبو السمح الذي كان متحمساً حماساً دينياً لجمع أربعة مقالات من مقالاته في مجلة «الأزهر»، وطبعها على نفقته الخاصة، ابتغاء مرضاة الله.
وهي الغاية التي أعلن عنها في بداية «كلمة الناشر» التي أتت في نصف صحفة.
السبب الحقيقي لعدم رضا محمد محمد حسين عن كتابه «في وكر الهدامين»، أن ناشره المحتسب الشيخ عبد المهيمن أبو السمح أخرجه بصورة رديئة جداً، ومحمد محمد حسين يعنى كثيراً بتوفر النواحي الشكلية المتقنة لكتبه.
في عام 1966، دعت وزارة الشؤون الإسلامية الكويتية في موسمها الثقافي الأول محمد محمد حسين للمشاركة في نشاطها الثقافي، فألقى محاضرتين، الأولى عن التغريب وبداياته الأولى في تركيا وإيران مع التركيز على مصر وتونس، والأخرى عن الأفغاني ومحمد عبده كتب فيها سيرة هدمية عنهما.
هاتان المحاضرتان في صورتهما الأولى كانتا موضوعاً كتابه «الإسلام والحضارة الغربية» الذي صدر في طبعته الأولى عن دار الإرشاد ببيروت عام 1969.
في ستينات القرن الماضي كان ثقل الحركة الإسلامية في الكويت موزعاً بين جنسيات عربية، ولم يكن للإسلاميين الكويتيين وزن في هذا الثقل. وبعد أن ألقى محمد محمد حسين محاضرتيه في ذلك الموسم طلب أولئك منه طبع جميع مقالاته في مجلة «الأزهر» في كتاب، فأذن لهم.
هذا الكتاب في مرحلته الثانية صدر عام 1967 بعنوان «حصوننا مهددة من داخلها» مع عنوان إضافي محصور بين قوسين هو «في أوكار الهدامين»، اشتركت في نشره مكتبة المنار الإسلامية بالكويت ومكتبة الثقافة في قطر.
وكان أول مقال من مقالات الكتاب هو مقال «الثقافة الإسلامية والتحديات المعاصرة». ويستلفت النظر التعليقان اللذان يخصان آصف علي فيضي، والتعليق الذي يخص نبيه أمين فارس لم ينسبا إلى مجلة (الأزهر»، كما في المصدر الأصلي، وإنما نُسبا إلى مؤلف الكتاب محمد محمد حسين!
هذه الطبعة شهدت إقبالاً كبيراً عليها عند القراء الإسلاميين؛ لأن الحركة الإسلامية تبنّت الكتاب فروّجت له عند جمهورها.
ولأن هذا الكتاب راج عند القراء الإسلاميين في ذلك العام، فلقد قامت دار نشر لبنانية عام 1968، بطباعته طبعة ثانية، طبعة مصورة من الطبعة الأولى.
ولما أعير محمد محمد حسين من جامعة الاسكندرية إلى جامعة بيروت العربية عام 1968، يقول «تبين لي أن الكتاب قد طبع في بيروت، وراجعته فوجدت فيه أخطاء كثيرة نبهت إليها صاحب الدار التي أصدرته، ورجوت أن يتلافاها في التالية. ولكن الكتاب نُشر كما هو في طبعته الثانية (1388 – 1968) مصوراً عن الطبعة الأولى بكل أخطائها؛ لذلك رأيت ألا يطبع الكتاب بعد ذلك إلّا بإذن كتابي مني. ولقد أذنت للأستاذ محمد عادل العاقل صاحب دار الإرشاد ببيروت في أن يطبع الطبعة الثالثة».
هذا ما قاله في مقدمة الطبعة الثالثة التي كتبها في بيروت صباح الاثنين 10 من جمادى الآخرة 1391هـ (2 - 8 - 1971م). وهذه هي المقدمة التي كنت أومئ إليها. وفي هذه الطبعة التي صدرت عام 1971، حذف العنوان الإضافي «في أوكار الهدامين». كما أنه في هذه الطبعة التي أشرف على تنفيذها مباشرة، أبقى على التعليقات الثلاثة في هوامش مقاله «الثقافة الإسلامية والحياة المعاصرة» منسوبة إليه، ولم ينسبها إلى مجلة «الأزهر» كما في المصدر «الأصلي».
أمام هذه الملحوظة رحت أتساءل: هل هو الذي كتبها أم أن الذي كتبها رئيس تحرير مجلة «الأزهر» في تلك السنوات محب الدين الخطيب الذي كان معنياً بالمذهب الشيعي من موقع خلاف وسجالي، وكان موقفه من المثقفين المسيحيين العرب العلمانيين مستريب وغير ودود؟ وإذ كان هو كاتبها – وهذا ما أميل إليه – فلماذا نسبها إلى مجلة «الأزهر» ولم ينسبها إلى نفسه؟!
ولماذا في الطبعة الرابعة، طبعة عام 1977، حذفها؟!
وكما قرأتم في الاقتباس السابق من مقدمة الطبعة الثالثة لكتابه، هو لم يذكر اسم الدار اللبنانية – وعلى الأغلب ستكون دار نشر إسلامية – التي طبعت كتابه طبعة ثانية، ولم أتمكن من معرفة اسمها.
فهي الطبعة الوحيدة التي لم أعثر عليها. فلو عثرت عليها لكنت ذكرت اسمها. فذكر اسمها مهم في تاريخ كتابه «حصوننا مهددة من داخلها» الذي كان له كبير الأثر على الإسلاميين عبر أجيال متعاقبة. وهذا التأثير ما زال مستمراً إلى الآن.
وفي الاقتباس السابق صور الخلاف بينه وبين صاحب الدار المجهولة، أنه يكمن في وجود أخطاء كثيرة في الطبعة الثانية، وأنه يعيد إصدارها بأخطائها، وأنه لم يستجب لرجائه بأن يتلافاها حتى لا يتحمل الكلفة المالية لطباعة الكتاب من جديد.
روايته، هذه رواية ناقصة؛ فبما أن طبعة هذه الدار هي طبعة مصورة من الطبعة الأولى، طبعة مكتبة المنار الإسلامية ومكتبة الثقافة، فلماذا لم يطلب منهما – وهما أصحاب الحق الأصلي – أن يعيدا إصدار كتابه، ويعمل قلمه في تصحيح الأخطاء الكثيرة التي وقعت في الطبعة الأولى؟!
إن الخلاف بينه وبين دور النشر الثلاث هو أوسع وأعمق. وهذا ما سأذكره في المقال القادم.
في الطبعة الأولى كان أدرج مقاله «الثقافة الإسلامية والحياة المعاصرة» في باب «الدراسات الإسلامية». وهذا الباب لا يوجد فيه سوى هذا المقال. وفي الطبعة الثالثة، طبعة عام 1971، أضاف إلى هذا الباب مقالاً هجومياً على مؤتمر جامعة برنستون الأول لدراسة الشؤون الثقافية والاجتماعية للشرق الأدنى الذي عقدته عام 1947، وترجمت أبحاثه ضمن سلسلة «الألف كتاب» تحت عنوان «الشرق الأدنى: مجتمعة وثقافته» عام 1958، وأضاف إليه مقالاً ثانياً تناول فيه بالهجوم كتاب ولفرد كانتويل سميث «الإسلام في العصر الحديث» الصادر بالإنجليزية عام 1957.
في الطبعة الرابعة من كتابه «حصوننا مهددة من داخلها» الصادرة عام 1977، أسقط باب «في الدراسات الإسلامية» من هذا الكتاب. وضمه إلى أبواب كتابه «الإسلام والحضارة الغربية» في طبعته الثالثة الصادرة في عام 1979. وللحديث بقية.