وفي الطبعة الرابعة من كتابه «حصوننا مهددة من داخلها» الصادرة عام 1977، أسقط محمد محمد حسين من متن مقاله «الثقافة الإسلامية والحياة المعاصرة» عرضه لما قاله نبيه أمين فارس في بحثه «العرب في التاريخ».
أسقطه لأنه في هذه الطبعة - كما ذكرنا في المقال السابق - قد أسقط تعليقه عليه في الهامش.
ولعله اكتفى بتعريضه به في مقدمة المقال، حينما قال «ومن هؤلاء السياسيين الأميركيين كذلك الدكتور نبيه فارس الذي كان رئيساً للقسم العربي بإدارة المخابرات الحربية بمدينة يورك (وقد كان رئيساً لقسم التاريخ في الجامعة الأميركية ببيروت)».
نحن هنا أمام غلطين؛ الأول: مدينة يورك. لا يوجد في أميركا مدينة تحمل هذا الاسم. فما هو موجود فيها مقاطعة تحمل هذا الاسم وحاضرتها تحمل أيضاً الاسم نفسه، لكن هذه الحاضرة هي بلدة وليست مدينة. وهناك مقاطعة في ولاية مِيْن اسمها يورك، ومقاطعة أخرى في ولاية كارولاينا الجنوبية اسمها أيضاً يورك.
وتصحيحاً لهذا الغلط؛ أقول: إن نبيه أمين فارس عمل رئيساً للقسم العربي في مكتب من مكاتب OSS (مكتب الخدمات الاستراتيجية) قبل إنشاء CIA (وكالة الاستخبارات الأميركية) عام 1947، وهذا المكتب كان في نيويورك. ونيويورك مدينة.
هذا الغلط موجود في المقال الأصلي في مجلة «الأزهر» وفي مجلة «الآداب» البيروتية. وموجود في طبعة «حصوننا مهددة من داخلها» الأولى عام 1967، وفي كل طبعاته الكثيرة في ظل حياة مؤلفه محمد محمد حسين الذي توفي عام 1982، وفي الطبعات الكثيرة أيضاً التي تلت عام وفاته.
الغلط الثاني، أن عمل نبيه أمين فارس رئيساً لقسم التاريخ في الجامعة الأميركية ببيروت جاء بعد عمله رئيساً للقسم العربي في إدارة المخابرات الحربية بنيويورك، ولم يأت قبله.
هذان الغلطان اللذان وقع محمد محمد حسين فيهما – وهو الحريص على التحري والتدقيق في أبحاثه وفي كتبه - سببهما أنه اعتمد على تعريف زميله في جامعة الاسكندرية محمد خلف الله أحمد بالمشاركين في مؤتمر «الثقافة الإسلامية وعلاقتها بالعالم المعاصر» والذي ترجم أبحاثه إلى اللغة العربية في كتاب عنوانه «الثقافة الإسلامية والحياة المعاصرة».
وتعريفه هذا تخلّلته بعض الأغلاط وبعض التصحيفات، كما رأينا في مقال سابق.
قال محمد خلف الله أحمد عن نبيه أمين فارس «وكان أميناً للمخطوطات العربية بمكتبة جامعة برنستون، ورئيساً للقسم العربي بإدارة المخابرات الحربية بمدينة يورك».
فالذي قال عنه إنه كان رئيساً للقسم العربي بإدارة المخابرات الحربية بمدينة يورك، كما نرى، هو زميله محمد خلف الله أحمد، وهو نقل عنه من دون تدقيق.
وقال عنه في السطر الأول من التعريف به «أستاذ التاريخ العربي، ورئيس قسم التاريخ في الجامعة الأميركية ببيروت».
وقال عنه في السطر الثاني من التعريف به «درس في الجامعة الأميركية وجامعة برنستون».
وهذا السطر سطر ملبس؛ لأن نبيه أمين فارس درس في الجامعة الأميركية ببيروت حينما كان اسمها الكلية السورية البروتستانتية، ودرس في جامعة برنستون. ولأنه درّس أولاً في الثانية مع عمله أميناً للمخطوطات العربية في مكتبتها، ثم درّس في الأولى.
وبين هذين العملين عمل لفترة قصيرة رئيساً للقسم العربي بإدارة المخابرات الحربية بنيويورك.
بصرف النظر عن هذا السطر الملبس، إلا أنه من الواضح أن السطر الأول يعرِّف بعمل نبيه أمين فارس في أثناء انعقاد المؤتمر عام 1953. وبصرف النظر عن الغلط الذي وقع محمد محمد حسين فيه، وهو أنه جعل عمل نبيه فارس رئيساً لقسم التاريخ في الجامعة الأميركية قبل عمله بإدارة المخابرات الحربية بنيويورك، إلا أن الأخير بانتقائه هاتين المعلومتين وجعل المعلومة الأولى في صيغة الفعل الماضي وحذفه معلومة أنه قبل عمله بإدارة المخابرات الحربية كان أميناً للمخطوطات العربية بمكتبة جامعة برنستون أراد أن يوصل لقارئه رسالة بعينها، هي أن عمله في الجامعة الأميركية مهد لعمله في المخابرات الحربية الأميركية!
فالجامعة الأميركية في بيروت هي عنده في مقالات أخرى من مقالات الكتاب من مؤسسات التجسس الأميركي في المنطقة العربية!
ولا يهمه بسبب انتقائيته المتحاملة إن سأل سائل «نبيه فارس الذي كان رئيساً للقسم العربي بإدارة المخابرات الحربية بمدينة يورك» ماذا كان يعمل إلى عام وفاته عام 1968؟!
عمل نبيه أمين فارس «رئيساً للقسم العربي في إدارة المخابرات الحربية» هي معلومة كتبها محمد خلف الله أحمد في التعريف به، ولقد أمدّه نبيه أمين فارس بها، وليست هي معلومة سرية كشف محمد محمد حسين عنها.
أمدّه بها لأنه لا يرى فيها عاراً ولا شناراً أو ما يسيء إلى سمعته العلمية والشخصية.
في مقاله «الثقافة الإسلامية والحياة المعاصرة» وهو يقسم أسماء الباحثين في مؤتمر «الثقافة الإسلامية وعلاقاتها بالعالم المعاصر» إلى فئات، قال محمد محمد حسين عن الفئة الأخيرة «أما النزر القليل من الباحثين المسلمين الذين تبدو النزاهة فيما ألقوا من بحوث فقد استجلبوا لستر أهداف المؤتمر ليكونوا كنماذج البائع الغشاش التي يغطي بها النماذج الفاسدة ليوهم المشتري أن كل بضاعته من ذاك النوع الجيد، وليكونوا هم العسل الذي يستعان به على إخفاء مرارة الأباطيل، والدسم الذي يخف ما حشي به المؤتمر من سموم».
قال هذا تمهيداً لنقده الفقيه السوري مصطفى الزرقا؛ إذ قال بعد قوله هذا مباشرة «على أن هؤلاء الأبرياء ممن تتصف بحوثهم بالنزاهة لم تخلُ كلماتهم من بعض الانحراف. فالأستاذ مصطفى الزرقا - وهو أحد القلائل الذين يتوسم القارئ خلال بحثهم الإخلاص - قد شغل نفسه بتبرير الأساليب العصرية السائدة مما يخالف الشريعة الإسلامية مخالفة صريحة. فأخذ ينتحل لها الأعذار ويخترع الحيل لتخريجها، مثلما تجده في ص 156 - 159 في كلامه عن الحدود والربا... وبذلك ينتهي إلى إلغاء وظيفة الدين؛ لأنه بدلاً من أن يقوّم عوج الحياة بنصوص الشريعة يحتال على نصوص الشريعة حتى يبرر بها عوج الحياة المعاصرة، وذلك واضح فيما ساقه في ختام بحثه ص 160 عن لجنة القانون المدني المصري الجديد، وعن تخريج الأوضاع الاقتصادية السائدة على أسس الفقه الإسلامي».
هذا النقد للفقيه مصطفى الزرقا الذي اخترت مقتطفين منه وضع الإخوان المسلمين في مأزق قبل أن يطبعوا الكتاب طبعته الأولى عام 1967، وهي الطبعة الصادرة عن مكتبة المنار الإسلامية بالكويت ومكتبة الثقافة بالدوحة، ليس لأنه فقيه وخبير في الموسوعات الفقهية، وإنما لأنه فقيه وقانوني قريب منهم.
هم كانوا يودون من محمد محمد حسين أن يحذف هذا النقد من المقال، لكنهم يعرفون أنهم لو طلبوا منه هذا وكاشفوه بعلة الطلب، فإنه لن يستجيب لهم، لأنه ليس من الإخوان المسلمين ولا هو حفي بتجربتهم، رغم تزمته الديني والثقافي.
ويعرفون أنهم إن أصروا عليه بقبول حذف نقده لمصطفى الزرقا من المقال، فسيلغي اتفاقه معهم في الكويت على نشر الكتاب؛ لأن الرجل مغالٍ في الاعتداد بآرائه وصعب المراس وعنيد، وهم في حاجة ماسة إلى نشره والترويج له.
وللخروج من هذا المأزق اهتدوا إلى حل، وهو أن يطلعوا مصطفى الزرقا على المقال الذي تعرض فيه محمد محمد حسين له بالنقد، ليكتب رده عليه، من دون أن يستأذنوه في ذلك. ليضعوه أمام الأمر الواقع فيخضع له بعد أن يلمس نجاحهم في التسويق لكتابه عند جمهور الكتاب الإسلامي.
هذا الرد استغرق صفحتين من صفحات الكتاب بأحرف صغيرة. وسوّغوا له باسم «الناشر» بما يلي:
«بمناسبة وجود الأستاذ مصطفى أحمد الزرقا خبيراً معاراً من جامعة دمشق للقيام على مشروع موسوعة الفقه الإسلامية لدى وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في دولة الكويت، عرضنا عليه ما كتبه الدكتور محمد محمد حسين عنه في هذا المقام، فكتب هذه الملاحظة التالية التي نثبتها هنا في الحاشية».
قال مصطفى الزرقا في مقدمة رده «مع تقديري للأستاذ الكبير الدكتور محمد محمد حسين وما كتبه من نقد أرى في نظراته بعض الغلو والإفراط في سوء الظن أحياناً»، ثم فصّل في الرد على نقده.
ومما قاله في الرد على المقتطف الأخير من نقد محمد محمد حسين له «وهذه اللجنة التي دعت إلى اتخاذ الفقه الإسلامي أساساً للقانون المدني ووضعت لنظرية العقد مشروع نصوصاً تقنينية تناظر النصوص التي جاءت في مشروع القانون المدني المصري الجديد الأجنبي الأصول وتفضلها، فقد تبنى عملها هذا جميع الجمعيات الإسلامية في مصر، وأيّدوه بعريضة مهمة وجهت إلى الجهات المسؤولة في الدولة المصرية ووقّع عليها رؤساء تلك الجمعيات الإسلامية تمثيلاً لجمعياتهم، ونشرت العريضة في كتيب مع مشروع النصوص الفقهية المقترحة لنظرية العقد ومراجعها من مدونات الفقه الإسلامي، وكان في جملة رؤساء الجمعيات الإسلامية المذكورة (وهي كثيرة العدد) الأستاذ العربي شهيد الإسلام الشيخ حسن البنا المرشد العام لـ(الإخوان) المسلمين إذ ذاك».
رد مصطفى الزرقا كان رداً قوياً ومحكماً إلا في هذا المقطع الذي اقتبسته فلقد كان الرد فيه ضعيفاً.
فلا حسن البنا ولا جماعة الإخوان المسلمين ولا جماعات إسلامية أخرى في مصر هم ممن يُحتج بهم في الفقه الإسلامي والعلم الديني. والسؤال لماذا لم يحتج بأعضاء اللجنة، الذين هم فقهاء وعلماء دين؟!
الجواب لأنه في هذه الجزئية من رده كان لا يخاطب محمد محمد حسين وإنما يخاطب جمهور الإسلاميين المتعلقين بلا عقلانية بحسن البنا وبالإخوان المسلمين. فهو يعلم سلفاً أن الكتاب موجّه لهم وما يشغله هو أن يدافع عن نفسه أمامهم.
نلحظ أن مصطفى الزرقا استعمل تعبير «جمعيات» إسلامية ولم يستعمل تعبير «جماعات» إسلامية، وأورد اسم الإخوان المسلمين مقروناً باسم حسن البنا، ولم يورده اسماً مستقلاً أو مقروناً باللفظ الذي اختاره، وهو «جمعية» لا «جماعة».
هو فعل ذلك ليمرر الاحتجاج بجماعة الإخوان المسلمين عند الإسلاميين ضمن مسمى الجمعيات الإسلامية التي هي - بالفعل - «جمعيات» لا «جماعات».
وهو بهذا الاستعمال يستند إلى أساس قانوني قديم في تاريخ جماعة الإخوان المسلمين، وهو «قانون جمعية الإخوان المسلمين لعام 1930».
فحسن البنا بعد أن أسس فروعاً لجماعة الإخوان المسلمين على امتداد منطقة شرق الدلتا، بالإضافة إلى الإسماعيلية وبورسعيد والسويس وأبو صير، رأى أنه كي يتمكن من نشر رسالته عليه أن يجد غطاءً قانونياً لنشاطه الدعوي؛ لذا لزم عليه أن يسجل جماعة الإخوان المسلمين على أنها «جمعية» وليست «جماعة»، امتثالاً للإطار القانوني المعمول به في الثلاثينات من القرن العشرين الذي يشترط تسجيل نشاط أي جمعية ليس لها طابع سياسي في وزارة الداخلية؛ كي تتمتع بغطاء قانوني يحمي نشاطها. وعليه صدر أول هيكل تنظيمي لجماعة الإخوان المسلمين بداية الثلاثينات من القرن العشرين.
الظريف، أن المرشد حسن البنا كان منصبه في هذا الهيكل التنظيمي هو رئيس مجلس إدارة. (النقل بتصرف من كتاب «الهيكل التنظيمي لجماعة الإخوان المسلمين: السمات، الأهداف، المستقبل»).
وللتنبيه؛ فإن اسم حسن البنا حتى بعد اكتشاف تنظيم 1965، لم يكن محظوراً في مصر ذكره، وإطراء شخصه لم يكن من المحرمات فيها.
ولقد لجأ مصطفى الزرقا إلى هذا الأسلوب الحذق والمقاتل، للمحافظة على صلة التعاون التي تجمعه بحكومة جمال عبد الناصر في المجال الفقهي والديني والتي بدأت أيام وحدتها السياسية مع سوريا.
وعلى غير ما قدّر الإخوان المسلمون كان محمد محمد حسين غاضباً من استكتابهم مصطفى الزرقا للرد عليه في كتابه «حصوننا مهددة من داخلها - في أوكار الهدامين».
وسبب غضبه يتعدى تصرفهم الخاطئ بأنهم لم يستأذنوه فيما فعلوه، فلقد رأى أن رد الزرقا يضعف نقده له في مقال «الثقافة الإسلامية والحياة المعاصرة»، ورأى أن رده رغم أنه منحصر فيما يتعلق به من نقد، سيشوش على القبول بأطروحته الثقافية والعقدية وبمنهجه في ذلك المقال وفي المقالات الأخرى التي ضمها كتابه عند قارئه الإسلامي والمحافظ.
وهذا هو سبب خلافه مع الطبعة الأولى ومع الطبعة الثانية لكتابه. وليس الخلاف كما صوّره هو أنه حول وجود أخطاء كثيرة في الطبعة الثانية لم تصحح.
صاحب دار الإرشاد ببيروت محمد عادل العاقل قبل بشرطه لاستئناف إصدار الكتاب. وكان شرطه أن يحذف رد مصطفى الزرقا عليه من الكتاب، فأصدر الطبعة الثالثة منه عام 1971، واختفت الطبعتان السابقتان واختفى معها رد الزرقا عليه. لأنه بقوة شكيمته وصلابة طبعه ألزم الإخوان المسلمين باعتماد الطبعة الثالثة. وللحديث بقية.