بقلم : يوسف الديني
من بين كل التدخلات في استقلالية لبنان وسيادته؛ ظل «اتفاق الطائف» هو صمام الأمان من لعبة استغلال الانقسامات المتجذرة في لبنان لتعزيز مصالح الدول الأجنبية. دفعت بيروت والشعب اللبناني الأثمان الباهظة لذلك، لكنهم اليوم على مفترق طرق حول «الأنا - الذات»؛ إذ تعاني البلاد من أسئلة وجودية حادة بعد حالة الاختطاف للحزب الواحد، ومآلات النفوذ الإيراني عبر الذراع الطيّعة «حزب الله» الذي تحول إلى تجربة «دولة داخل دولة» ويحاول ملالي طهران اليوم تصدير هذا النموذج الميليشياوي إلى أكثر من منطقة في العراق واليمن.
المخاوف الوجودية للأقليات - الطوائف في لبنان كانت ذريعة لطبيعة نسج علاقاتها بالخارج، لكنها اليوم بحاجة إلى العودة إلى «الطائف» أكثر من أي وقت مضى لإعادة تعريف الذات السياسية عبر «اتفاق الطائف» الذي لم يكن اتفاق مصالح بقدر ما هو إعادة هيبة وقوة لبنان الدولة على حساب تحيزات الطائفة التي تتذرع بالانكفاء على ذاتها في مناخات الحرب الأهلية أو حين تشعر بأنها تنفرد بالسلطة دون غيرها أعوام 1975، و1982، وصولاً إلى 2006 التي كانت اختباراً لتلك الثنائية من تعريف لبنان دولةً أو طائفةً لأسباب مختلفة.
اليوم الوضع مختلف؛ فإيران تحضر في لبنان عبر كيان مستنسخ هجين تضخم واستثمر في تحيزات ومخاوف الطوائف ليتحول إلى ممثل لطهران من دون أن يكون لها حضور على الأرض، فالضامن لمشروعها هو بقاء تضخم «حزب الله» ذراعاً إيرانية على حساب علاقته بالحالة اللبنانية ولبنان الدولة، ومن هنا؛ فإن أي موضعة للحزب اليوم كطرف سياسي أو التلويح من أعلى شخصية في البلاد بأنه يمثل ثلث لبنان، هو اعتراف بالأزمة أكثر من تبرير لها.
والسؤال اليوم: ما الذي تعنيه زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للسعودية ولقاؤه الأمير محمد بن سلمان، ولي العهد السعودي، التي شملت العلاقات بين البلدين كما نص البيان الفرنسي الصادر يوم الأحد عن «الإليزيه» وفيه تعميق الشراكة الاقتصادية، وتعزيز مشاركة القطاع الخاص، وتبادل الخبرات، وتطوير القدرات البشرية، واستغلال الفرص الناشئة عن «رؤية 2030» للمملكة و«الخطة الاقتصادية لفرنسا 2030» في مختلف القطاعات ذات الاهتمام المشترك، كما أشاد الرئيس ماكرون؛ بحسب البيان، بمبادرات السعودية المتجددة، خصوصاً «السعودية الخضراء»، و«الشرق الأوسط الأخضر».
وبحسب البيان الصادر عن «الإليزيه» الذي هو متن التواصل السياسي، وبعيداً عن هوامش ومفرقعات الإعلام، تحدث البيان عن قلق ومخاوف عميقة تجاه سلوك طهران، مع النص على مسألة الطائرات المسيّرة والصواريخ الباليستية. وبشأن لبنان والوضوح السعودي متمثلاً في رؤية ولي العهد تجاه المواقف والمرتكزات الراسخة للسياسة الخارجية السعودية، شدد البيان على ضرورة قيام الحكومة اللبنانية بتنفيذ إصلاحات شاملة، لا سيما الالتزام بتنفيذ «اتفاق الطائف» المؤتمن على الوحدة الوطنية والسلم الأهلي في لبنان، وأن تشمل الإصلاحات قطاعات المالية والطاقة ومكافحة الفساد ومراقبة الحدود، وعلى ضرورة حصر السلاح بمؤسسات الدولة الشرعية، وألا يكون لبنان منطلقاً لأي أعمال إرهابية؛ يزعزع استقرار وأمن المنطقة... هذا منطوق البيان، وهو صريح على أن موقف السعودية ثابت، وهو ضرورة إنهاء حالة «الدولة داخل الدولة» لـ«حزب الله» في لبنان، والعودة إلى «الطائف» لضمان أمن لبنان، وهو ما يعيدنا إلى ضرورة العودة إلى «الطائف» بصفته متناً وحدوياً لتعريف لبنان، وليس إلى هوامش التخيلات المتوهمة في الصحف الصفراء ومواقع التواصل الاجتماعي التي تتحدث عن هدايا أعياد الميلاد لماكرون، وهو ما يقودنا إلى معضلة القراءات السياسية المبتسرة التي لا تستند إلى المتن وتتجاوزه إلى الهوامش الرغبوية للأسف.
والحال أن التأكيد السعودي جاء على ضرورة الإسراع في انتشال الأزمة اللبنانية التي تمسّ الشعب، وهو ما يعني أن التقدم في مسار العلاقات مرهون بالتزام لبنان بالمتن السياسي ومخرجات «الطائف» واحترام السيادة بالفعل والسلوك وليس مجرد المواقف المرتجلة أو ردود الفعل، ومن هنا لا يمكن أن تكون زيارة ماكرون مفتاحاً لمناورات جديدة لـ«حزب الله» أو أن لبنان ساحة تفاوض دولي مجدداً، فهذا ما لا يرغبه أحد. الموقف السعودي واضح وبسيط. كما جاء في متن ما صدر بعد الزيارة؛ إنهاء حالة التمدد الإيراني في المنطقة وبناء أذرع خارجة عن منطق الدولة، وإعادة السيادة للبنان من دون تدخلات في تشكيل الحكومة أو شأنه الداخلي... هذه السيادة التي أسسها «الطائف» هي خريطة الطريق إلى «لبنان الدولة» وليس «الطائفة» أو «الحزب»، بعيداً عن أي مماحكات أو تأويلات الطبقة السياسية؛ ومن ورائهم هوامش التخيلات التي تعبر عن أجندات مستلبة ومسلوبة الإرادة لصالح مشروع الملالي في المنطقة.