بقلم:يوسف الديني
«نحن أمة موغلة في القدم وعمقنا التاريخي يلتقي بالعديد من الحضارات...» هذه العبارة لولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان تُعبّر بشكل واضح عن سر هذا الشغف الذي سبق يوم التأسيس الذي يتم الاحتفال به اليوم في السعودية كبداية سردية الملحمة السعودية.
السعودية اليوم لديها ككل شعوب العالم وحضاراته منذ فجر التاريخ لحظة تاريخية فاصلة في تجربتها، شكّلت نقطة ارتكاز لبناء هويتها لماضيها العريق، وحاضرها بكل تحدياته، ومستقبلها الطامح للأجمل. تلك اللحظة الفاصلة هي ملحمتها الخاصة، ويوم التأسيس الذي دشنت ذكراه اليوم هو ملحمة التجربة السعودية بما تحمله الكلمة من دلالات رمزية واستكناه لكل مراحل الصيرورة التاريخية.
وإذا كانت الملحمة لأي أمة هي حكاياها البطولية التي اجترحتها شخصيات خالدة في سجلها تعبر عن حركة سكانها ومجتمعاتها؛ فإن تلك الملاحم تستحيل إلى نماذج إنسانية قابلة للاستعادة التاريخية، لكن الأهم قدرتها على بناء الهوية للمستقبل عبر استلهام تفاصيل ما حدث.
يوم التأسيس ملحمة السعوديين اليوم ونقطة البدء لتاريخ التجربة السياسية الموحدة للجزيرة العربية والتي اختصت قيمها فلسفة تاريخها بامتيازات دينية وثقافية ومجتمعية، لكن «السيادة» وتعاليها على منطق الاستتباع أو محاولات الغزاة، وعدم خضوعها للاستعمار يُعبّر عن قمة الهرم للملحمة.
الملحمة التاريخية للسعودية بدأت مع تأسيس المدينة الدولة الذي لم يكن لحظة ولادة في الفراغ، حيث لا مكان لهذه الصدف في فلسفة التاريخ، بل هو ككل التحولات الكبرى نتيجة مراحل متعاقبة للمسار التاريخي والتفاعل السيسيولوجي مع ولادة سلطة، ولذلك كان مهماً ضم كل هذا التحقيب التاريخي من بداية الوجود البشري في وادي حنيفة ثم ولادة الدرعية، وصولاً إلى تجربة الإمام محمد بن سعود في تحويل المدينة الدولة إلى نموذج توحيدي من خلال تبني ميثاق «الاستقرار» وحماية المناطق التي انضمت له تباعاً، وصولاً إلى تأمين طرق التجارة والحج، وهي مرحلة سبقت باقي المكونات ومنها الدعوة وسرديتها الخاصة، التي لم تقرأ أيضاً خارج مقولات الصراع العقائدي. والحق يقال إن ثمة مراجعات كثيرة في التعامل مع الحركات الفكرية والدينية ككائنات حية تتفاعل مع الوقائع السياسية والاجتماعية، وقد ظهر ذلك جلياً في قدرة السلطة ثم لاحقاً مع الملك المؤسس عبد العزيز في إدارة الحقول الفاعلة ومنها الديني والثقافي والمالي بشكل يتواءم مع هوية السلطة المبنية على فكرة الدولة أولاً، وبدا ذلك واضحاً في تحديات داخلية كبرى من السبلة ثم لاحقاً مع قدرة بيت الحكم السعودي على إدارة الحقول بحسب «مفهوم بورديو» للفاعلين في المجتمع من زاوية قدرتها على المواءمة مع هوية الدولة والتي طورت سرديتها ومنظومتها للشأن السياسي والمؤسسات ودولنة المناشط الفاعلة، ومنها الشأن الديني، قبل أن تنجح أيضاً في التعامل مع مسألة الإسلام السياسي الذي انفصل عن الحقل الديني المؤسسي لأسباب لا تخص تجربة دون أخرى، وإنما بسبب تحوله إلى معضلة التمرد على الدولة القُطرية، وفي التفاصيل العديد من نجاحات الملحمة السعودية التي تجلت في لحظة فارقة مع الحرب على الإرهاب ومكافحة التطرف إلى أن حانت لحظة القطيعة، التي استبدلت من خلال المكافحة الاستباقية معالجة الجذور، وإعادة تأهيل لاستعادة «الاعتدال» كمسألة ضرورية ووجودية لضمان دولة الرفاه والسيادة، ومتطلبات الاقتصاد السياسي، وفي الوقت نفسه وقفت بصرامة ضد أي محاولات استهداف خارجية تحاول القفز على نسغ الملحمة السعودية ولبها «السيادة».
الملحمة التاريخية السعودية كسردية تاريخ سياسي بحاجة إلى الكتابة من زوايا جديدة غير تأريخ الأفكار، فعلى سبيل المثال قدرة بيت الحكم على عقلنة ومأسسة الشأن الديني، والتعامل الذكي مع التوافقية في الفضاء الاجتماعي، وميلاد التجربة السياسية الحديثة المنحازة لمفهوم الدولة القطرية، ثم مع ولادة «رؤية 2030» إعادة الاعتبار إلى مركزية الدولة من خلال تبني نهج «التمركز حول المواطن» باعتباره رأس مال مستدام، وإعادة رسم ملامح الفاعلية لمؤسسات الدولة، وفق ثلاثية باتت أهم ركائز الرؤية «وطن طموح، اقتصاد مزدهر، مجتمع حيوي»، وعلى كل مؤسسات الدول اليوم رعاية هذه الأهداف الكبرى وفق ممكنات حولت الداخل السعودي إلى ما يشبه ورشة مفتوحة للابتكار والإنجاز رغم كل التحديات والصعوبات، لكن الروح موجودة ولا يمكن لأي عين منصف أن تخطئها، وربما كانت الأرقام والنتائج لإدارة الأزمات ومنها جائحة «كورونا» وصولاً إلى نتائج ومبادرات قمة العشرين، إضافة إلى حزمة هائلة من التقدم على مستوى الأرقام في الأداء المؤسسي، والنهضة التقنية العالية المستوى التي تنافس مثيلاتها في العالم... كل ذلك أكبر دليل على أننا بإزاء ملحمة سعودية يتم الاحتفال اليوم بوهج البدايات والذي يتم تعزيزه بالعديد من الفعاليات والاستعادة التاريخية وعيش التجربة الشمولية للحدث كمتخيل هوياتي وطني، وهو ما سيحوله إلى وقود حقيقي نحو المستقبل الواعد الذي بدأت الوسائل الإعلامية العالمية تتحدث عنه، وآخرها تقرير «بلومبرغ» الأخير قبل أيام عن صناعة مستقبل ما بعد النفط ودور صندوق الاستثمارات العامة «PIF»، أكبر دليل على الطموحات السعودية التي دشنتها الرؤية، فالصندوق اليوم هو سادس أكبر صندوق سيادي في العالم والقائد الأهم لمستقبل الاقتصاد في السعودية والمنطقة، لا سيما بعد الإصلاحات الكبرى التي قادها ولي العهد مهندس الرؤية الذي يرى فيه الشباب السعودي اليوم تجسيداً لأحلامهم الكبيرة.