بقلم:يوسف الديني
الوضع في أفغانستان بحاجة إلى أصوات عاقلة ومصالحة جديدة تحاول أن تخرج هذا البلد، الذي أصبح نموذجاً لكل شيء تقريباً؛ الآيديولوجيا المتطرفة، التخلي الغربي والأميركي، والانسحاب الذي يخلف آثاراً أكبر من الأزمات، وإمكان خلق دوافع لمجتمعات تعيد معضلة الإرهاب العابر للقارات ومعسكرات التجنيد، والكونتونات التكفيرية التي تبحث عن ملاذات آمنة.
ورغم كل ما قيل ويقال عن النخب الأفغانية السابقة ما قبل «طالبان»، وما فعلته من أداء مخيب واتهامات بالفساد والمحسوبيات... إلخ، وهي في بعضها اتهامات موثقة، إلا أنها ساهمت في إعطاء أمل بمستقبل على الأقل على مستوى الحراك المجتمعي والثقافي والهوية التي سبقت الاجتياح السوفياتي، وما تلاه من تحول كابول إلى ما يشبه الدوامة المنتجة للعنف والتطرف والمخدرات، وقسر المجتمع على قناعات النخب الحاكمة وآيديولوجيتها.
صحيح أن ما حدث اليوم مربك فهو نتيجة لانسحاب براغماتي ولا أخلاقي كبير، لكنه أيضاً سبب لعدم القدرة على مقاربة أي تعاون أو اعتراف لحكومة «طالبان» وهي تذهب بالبلاد إلى الهاوية، ويمكن أن ينضاف إلى ذلك أنها تتخذ «فزاعة» الإرهاب والتطرف وبناء مجتمعات مؤدلجة على العنف ذريعة، لإعادة تصدير وتسويق هويتها المختطفة، على أنه قدر شعبها وجزء من نسيجها الاجتماعي، وهو ليس كذلك، بدليل أن فترة غياب الآيديولوجيا أخرجت محتوى عفوياً وبسيطاً عبر السوشيال ميديا يعبر عن أشخاص ومجتمع وبشر طبيعيين يأملون في حياة كريمة، وتحدي كل الظروف.
الشعب الأفغاني اليوم يصدر خطاباً مضاداً يمكن أن يجده الباحث في الثقافات والخطابات السرية التي ينتجها، وينشرها عبر منصات التواصل الاجتماعي (Underground culuter)، وغالبها يدور حول التذمر من القمع والتعب من الحرب الأهلية، والتشكي من خذلان المجتمع الدولي والغرب، وكل هذا دفع ثمنه الأفغان أكثر بكثير من حقبة الحرب السوفياتية.
أربعة عقود من الصراع في أفغانستان وما زالت البلاد تراوح في نقطة الصفر، من دون أن تحظى بالسلام والأمن، رغم تعاقب الاستراتيجيات الدولية في محاولة للخروج من الأزمة، واليوم رغم غياب أمراء الحرب مع تسنم «طالبان» وقضبتها الأمنية الحديدية على البلاد، إلا أن البلاد تعيش انتكاسة كبيرة بسبب فشل إيجاد نخبة سياسية جديدة تتجاوز إرث الدم والدمار، بعد كل هذه السنوات.
عودة «طالبان» بهذه السعي الحثيث لتجريف كل مكتسبات الفترة السابقة ليس سوى رسالة إلى العالم بأن التخلي عن أفغانستان يعني دولة «طالبان» اللادولة، وهو الشيء ذاته يمكن توقعه في مكان أخرى من بؤر الصراع والتوتر في المنطقة.
أزمة المجتمع الدولي اليوم تكمن في سياسات الدول الكبرى والمؤسسات الدولية عدم الاعتراف بمسؤوليتها عما بعد الانسحاب من بلد مثقل بتاريخ دموي استمر لعقود كأفغانستان، وحتى محاولاتها اليوم لا تعدو أن تكون مجرد اهتمام بتحويل الصراع إلى شكله المحلي، والحيلولة دون عودة مقاتلين أجانب دون تفكير في حال الأجيال الشابة، وهي نسبة كبيرة ستولد وتنشأ على التربية القسرية لآيديولوجيا التطرف مع فرص ضئيلة جداً في الهجرة أو الانتقال.
الهبة الدولية في أوكرانيا، خصوصاً من الولايات المتحدة والدول الأوروبية لها سياقها الخاص، والشعور بتهديد وجودي، لكنها لا تمثل أي استراتيجية قابلة للاستنساخ في مناطق أخرى كأفغانستان، هناك اليوم أزمة حقيقية للدول الكبرى والمجتمع الدولي في التعامل مع المناطق المنكوبة بالصراعات الأهلية والإرهاب والحروب وتجارة الأسلحة، وانعدام الأمن، تنحصر معالجاتها في أحسن الأحوال على توزيع الإغاثات، في حين أن هذه المناطق بحاجة إلى مفاهمات دولية واستعانة بالدول الإسلامية، وهنا بيت القصيد، فدول الاعتدال، في مقدمتها السعودية، قادرة على تحسين المقاربة الدولية للملف الأفغاني منعاً لعودته لمربع تصدير الأزمات العابرة للقارات.
مضت عقود من الصراع في أفغانستان، وما زالت البلاد تراوح في نقطة الصفر من دون أن تحظى بالسلام والأمن، رغم تعاقب الاستراتيجيات الدولية في محاولة للخروج من الأزمة، لكن الأمر يراوح مكانه بعد فشل إيجاد نخبة سياسية جديدة تتجاوز إرث الدم والدمار بعد كل هذه السنوات.
واليوم قبضة «طالبان» وشعاراتها تحاول أن تستقطب القاعدة الجماهيرية للتطرف مجدداً، وعبر شرائح جديدة من دول القوقاز المحيطة بها، وهو ما يستدعي أن تبادر دول الاعتدال والمؤسسات الكبرى كرابطة العالم الإسلامي وغيرها، إلى تصميم مبادرة إنقاذ مشروطة بالوسطية والاعتدال، والعودة إلى أسس الإسلام التي اختطفه خطاب التطرف، الذي إذا انتقل إلى مرحلة الاستقطاب والتصدير ستعم آثاره التدميرية مجدداً على العالم بأسره.