بقلم:يوسف الديني
هناك تصعيد لا يمكن أن تُخطئه العين في المنطقة، من عودة الاضطرابات إلى السودان، وصولاً إلى احتجاجات كازاخستان، إلى شبح الحرب الأهلية في إثيوبيا، إلى حدث الأحداث؛ التوتر الأميركي الأوروبي في آن مع روسيا بوتين، لكن هذه الأجواء المضطربة هي فرصة مواتية لأن يعود ملالي طهران لتغذية مشروعهم وتفعيل أذرعهم في المنطقة، بهدف ترسيخ سياسات الطائرات المسيّرة وفرض الميليشيا كواقع لتحسين المفاوضات، أو على الأقل الضغط على الغرب إلى الحد الذي بدأت فيه إسرائيل تغير من لهجتها إلى مستوى أكثر براغماتية بطلب تعويضات في حال التوصل لأي اتفاق نووي.
التقط نظام طهران مؤشر الفوضى في المنطقة ليدشن استراتيجية التلويح بالميليشيا ضد الغرب وتنشيطها في المنطقة، والسبب في هذه العربدة الإيرانية، هو أن الغرب تساهل مع نظام الملالي، في استباحة المنطقة العربية وإغراقها بالميليشيات، وهذا له تأثيره المدمر على أمن الخليج والاقتصاد العالمي.
تحذيرات في مقابل تهديدات هي حصاد بدايات عام 2022... كان آخر تحذيرات مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان، من أي محاولات إيرانية لمعاقبة الأميركيين، والمقصود هنا بصريح العبارة تحول نوعي في لغة الملالي الحربية وإعلان قوائم عقوبات خاصة لشخصيات أميركية بما فيهم 52 شخصاً تم ذكرهم على لسان بيان للخارجية الإيرانية!
إرهاب الميليشيا بالأمس في طريقه ليتحول إلى لغة تواصل سياسي لمنطق دولة تتذرع بالملاحقة المعلنة، وتسمي من تستهدف على لسان الخارجية في محاولة للاستثمار في حدث تصفية قاسم سليماني قبل عامين بمن فيهم الرئيس السابق ترمب، ومعظمهم من القيادات العسكرية الأميركية، كالجنرال مارك ميلي رئيس هيئة الأركان الأميركية المشتركة وروبرت أوبراين مستشار الأمن القومي السابق.
هذا التهديد الصريح أو التلويح بالعقوبات جاء تحت شعارات الملالي المعتادة، حيث الانتقام، وهو في لغة الأجواء الحربية، يشير إلى التصفية والاستهداف الذي قد يصل للاغتيال سيكون بحسب البيان على طريقة «الحرس الثوري» الخاصة وعلى يد «أحرار العالم»، والمقصود بأحرار العالم، الأذرع التابعة لنظام طهران من الميليشيات المنتشرة والمتكاثرة في المنطقة والعالم، وكان آخرها إعلان ميليشيا بلا تاريخ كبير مسؤوليتها عن هجمات بطائرات بدون طيار وصواريخ على مطار بغداد، وغالب تحليلات الخبراء أنها جزء من استنساخات «عصائب أهل الحق»، وقبل أيام أعلنت جماعة تسمي نفسها «سرايا أبابيل» مسؤوليتها عن هجومين بطائرتين بدون طيار وهجوم صاروخي واحد على مواقع أميركية في مطار بغداد، واللافت أن هذه الجماعات بدأت تستنسخ تقنيات تنظيم «داعش» الإعلامية عبر إغراق منصات المحتوى الأقل رقابة كـ«التليغرام» بصور وفيديوهات العمليات، وبعناوين مشابهة، ومضامين تستبطن الكثير من البروباغندا الحربية بمنطق ولغة الميليشيات، لكن بغطاء الدولة وأدواتها، وهذا مكمن الخطورة.
إعلام الميليشيات الإيرانية اليوم يتضخم وبمحتوى مدعوم بأجهزة الدولة ورعايتها، وهو غير مرصود كما كان إعلام تنظيم «داعش» بسبب مفارقة أن إرهاب الفوضى أكثر جذباً للمراقبين ونشرات الأخبار من إرهاب الدولة على رغم التشابه وربما التجاوز في المحتوى والتأثير... اليوم على سبيل المثال هناك قنوات بأسماء «صابرين»، وقناة متخصصة للمنصات غير المراقبة تحت عنوان «ردع» تم إنشاؤها في سبتمبر (أيلول) العام المنصرم، واللافت أن العديد من هذه القنوات المستنسخة هي فقط لمحاولة تضخيم وإعادة تدوير المحتوى الخاص بالميليشيات، رغم أن المحتوى لا يزال يدور في فلك التلويح بالشعارات الضخمة وببعض العمليات في مناطق التوتر، وفي قائمتها العراق الذي يحاول كل مرة التعافي من هذا العبث للملالي بسيادته ومستقبله.
المفارقة أن جحيم هذه الميليشيات يستهدف استقرار الخليج والعراق وأمنهما بشكل أساسي، في حين تسعى الولايات المتحدة إلى طمأنة إسرائيل التي لا تتخلى عن منطقها الخشن والجذري في نقد التقارب مع دولة الملالي، وتسريبها بانتصارات استهداف القدرات النووية.
الأزمة الأساسية في إيران هي أنها تعتقد أن الاستثمار في الإرهاب ورعاية الميليشيات المسلحة وخلق كيانات آيديولوجية ومنظمات تابعة لها في دول أخرى بهدف الهيمنة لا يمكن أن تكون له تبعات أو خسائر. الإرهاب كأداة يمكن أن تمنحك النفوذ المؤقت، ويمكن أن يتحول مع الوقت إلى أداة تدمير.
الأكيد أن إيران المحاصرة بجغرافيا السياسة وصعود أصوات ناقمة على تدخلها في العراق، تحاول الخروج إلى وضعية جديدة تماماً عبر إشغال العالم وخصومها بالأذرع والميليشيات والإرهاب، فيما تحاول جاهدة الذهاب بعيداً عبر الجيوبولتيك السياسي طمعاً في امتداد جغرافيا عسكرية خارج إمكاناتها الحدودية؛ بقصد الهيمنة العسكرية والسياسية، أو ما تسمى جغرافيا السيطرة التي سيقاتل الملالي دفاعاً عنها حتى آخر رمق.
العراق اليوم يحاول التعافي من ارتباكه الذي طال أمده باتجاه عراق واحد عربي يمثله كله أبناؤه الذين دفعوا كثيراً من الأثمان للتخلص من نظام البعث ومن الإرهاب، وآن الوقت لأن يضحوا بالطائفية والتغلغل الإيراني للاستقلال الحقيقي، وهو أمر قابل للتحقيق أكثر من أي وقت مضى متى ما أخذ الفاعلون الرئيسيون فيه زمام المبادرة للقطيعة مع استخدام العراق لا خدمته!