بقلم - يوسف الديني
إذا ما قُدِّر لي أن ألخص منجز السعودية السياسي في عام 2023، وهو أمر صعب جداً، لاختزلته بشكل مكثف في مفهومين «التسامي» و«السيادة»، وهما ما أسهما في صعود سعودي استثنائي في عام كان الأسوأ على مستوى العالم من حيث الأزمات والتحديات والمعضلات بدءاً من الارتباك الغربي والإدارة الأميركية بشكل خاص إلى انبعاث عدمية سياسية عامة تجاه مفاهيم العدالة والحقوق وكرامة الإنسان وحق الحياة لا سيما بعد السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.
مفهوم السيادة ربما كان واضحاً بشكل كبير منذ انطلاق «رؤية 2030» الشاملة التي كانت مضامينها الاقتصادية تعكس مفهوماً سياسياً يتمحور حول الاستثمار في المواطن وتقديم المصلحة الوطنية وإعادة ترسيخ التقاليد العريقة للسياسة الخارجية والعلاقات الدولية وفق مفهوم السيادة وأيضاً الشراكات. السيادة التي تعني عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، والشراكات بديلاً عن الهبات لصناعة مستقبل مستدام للمنطقة.
الأهم اليوم هو تثمين منجز التسامي السياسي وإن كان عادةً يجري طرح هذا المفهوم على مستويات أخرى ثقافية وفلسفية واجتماعية وأخلاقية، لكنه بالمعنى السياسي اليوم امتياز سعودي عطفاً على موقف المملكة من حالة الاستهداف ضدها أو حرصها على طرح رؤية تصالحية للإقليم نزّاعة نحو المستقبل وتدعيم رؤيتها وتجاوز الخلافات، كما هو الحال في تشخيص الأزمات ضمن سياقها الخاص، ومنها العدوان الهمجي على غزة والإصرار على أنه نتيجة لمعضلة كبيرة من إهمال الحق الفلسطيني وعدالة القضية، وأنه لا حل أو حديث عن اليوم التالي قبل إيقاف فوري للحرب، وهو موقف تسامت فيه حتى الأصوات النشاز من كل الأطراف، خصوصاً الأصوات اليمينية في إسرائيل والولايات المتحدة أو الثورية والميليشياوية في المنطقة، والتسامي على هذه الأصوات هو جزء من ثوابتها السياسية بضرورة تغليب منطق الدولة على ما عداه لا سيما أن لديها كما هو حال المجتمع السعودي اليوم مناعة ترسخت عبر عقود وتعاظمت قوتها ما بعد الرؤية تجاه الشعارات والبروباغندا السياسية والحملات المغرضة والمحتوى التضليلي.
التسامي والسيادة يقفان مفهوماً سياسياً تجذَّر عام 2023 مع الحضور السياسي والدبلوماسي على المستوى الإقليمي والدولي لمناقشة أزمات وتحديات حول العالم، وهو ما عُدَّ لدى المنصفين انبعاث حقبة ومرحلة سعودية جديدة على المستوى الجيو - سياسي ومن خلال ملفات شديدة التعقيد والتشابك منذ بدايات إجلاء آلاف المدنيين والدبلوماسيين جراء تفجّر الأزمة السودانية بشكل مفاجئ إلى إعطاء فرصة للمباحثات بين الفرقاء، ومن جهة أخرى كان الإعلان في مارس (آذار) الماضي عن استئناف العلاقات الدبلوماسية بين السعودية وإيران خطوة استثنائية ومفاجئة على مستوى المراقبين، لكنها كانت ضمن سياق سعودي رؤيوي للمستقبل قائم على إعادة تأهيل المنطقة للمستقبل وتقديم المصالحات على النزاعات، وتَلَتْ ذلك قمم واجتماعات دولية تصبّ في نفس الاتجاه منها قمة سعودية - يابانية، وقمة سعودية - تركية في جدة، قبل أن تحتضن المدينة الساحلية على البحر الأحمر قمة خليجية تشاورية، وقمة خليجية مع دول آسيا الوسطى الخمس.
التسامي السعودي تجاوز أيضاً ثنائية مع أو ضد في الأزمة الأوكرانية، ومضى خطوة استباقية أبعد باحتضان اجتماع جدة بشأن الأزمة الأوكرانية بحضور مستشاري الأمن القومي لنحو 40 دولة، ثم قمة تاريخية هي الأولى بين مجلس التعاون الخليجي ورابطة «آسيان».
الأزمة الفلسطينية كانت اختباراً كبيراً جداً لمفهوم التسامي والعمل على حل النزاعات ضمن النفوذ السعودي الجديد بوصف الرياض لاعباً أساسياً في المنطقة، وأخذتْ زمام المسؤولية والتحرك العاجل لعقد قمة عربية - إسلامية استثنائية؛ لوقف العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، كما عُقدت قمة سعودية - أفريقية، واختُتم العام بقمة سعودية - روسية بعد زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الرياض.
الرياض اليوم هي قلب الأمل للشرق الأوسط، والسعودية هي بوصلة المشاعر الإيجابية لمستقبل أفضل. وبعيداً عن مشاريع الميليشيات وخداع الأوهام الشمولية الكبيرة أو انتهازية الآيديولوجيات الضيقة، هي مصدر للاستقرار الإقليمي. و«فضيلة الاستقرار» التي أركز عليها دائماً مفتاحاً لفهم السعودية تضاف إليها اليوم قدرتها على منح الأمل فيما يخص التركيز على السيادة والمستقبل وفتح كل الأبواب وإعادة تشكيل الملفات العالقة.