بقلم:يوسف الديني
رغم التفاعل غير المسبوق منذ الحرب العالمية الثانية مع أزمة سياسية كبرى، كالذي يحدث اليوم مع الأزمة الأوكرانية الروسية؛ فإن تداعياتها وتحزباتها والانقسام حولها ليس إلا بثوراً ملتهبة لورم جيوسياسي واقتصادي متضخم، ومن هنا التموضع في أخذ مواقف اندفاعية أو برافعات قيمية وحقوقية لا يرسم الصورة الكبيرة من الأزمة، لأنه يتعامل مع النتائج، وليس فهم الأسباب لهذه الأزمة التي وترت العالم كله، وألغت فوارق الجغرافيا والتاريخ والثقافات لبلاد الحافة والتخوم الفسيحة، كما هو معنى أوكرانيا، الذي يشي بالإغراء للدول الكبرى لاستتباعها السياسي.
الملف الأوكراني قديم ولحظة الاصطدام كانت متوقعة، لأنها تعبر عن أكبر مأزق جيوسياسي لقارة أوروبا والغرب إذا ما أردنا التبسيط التحقيبي للعالم منذ نهاية الحرب الباردة.
البداية لم تكن مع استنبات حليف روسي ثم تجاوزه بانتخابات شرعية، وما بينهما من انتفاضات أوكرانية خلال العقد الماضي، بل هي أزمة هوية موضعة أوكرانيا الواعدة بجغرافيتها وإمكاناتها الاقتصادية بدأت مع استقلالها قبل أكثر من ثلاثين سنة، حيث كان نجاحها أزمة لروسيا، وفشلها معضلة للاتحاد الأوروبي وتحدياً كبيراً بينهما للعالم، فيما يخص الأمن الغذائي وأمن إمدادات الطاقة، وعلى المستوى الداخلي تأرجح هوية الأوكرانيين بين الحلم بديمقراطية مدعومة من الغرب (أميركا وأوروبا) وبين الاستعداد والجاهزية للتخلص من الهوية المحايدة بشكل كبير لروسيا، وهنا يمكن فهم سر سلاسل الانتفاضات والثورات والثورات المضادة، وتلك السيولة الضخمة لمحاولة البحث عن قطيعة مع أحد الطرفين، وبشكل غير متوازن مع التحولات خارج أقواس التحشييد والضغط، وتدخل الخارج في السيادة لا من جهة أجندة الأوروبيين و«الناتو» في التحالف، وبالتالي الضغط على عودة روسيا إلى حلمها الإمبراطوري، أو قدرة موسكو منذ الاستقلال على تدشين مشروعها للعودة كقوة فاعلة بامتداد جغرافي، وليس من خلال التدخل العابر للقارات أو في مناطق التوتر مع خلق فراغ يمكن الاستفادة لخصومها منه، كما حدث في أوكرانيا، وما تبع ذلك من إجراءات استفزازية غير عسكرية من وجهة نظر موسكو من تغيير اللغة والثقافة والطموح، الذي اتجه بالأوكرانيين للانضمام للاتحاد الأوروبي، مع أن الأخير يعاني من العمل، وفق سياسات الاتحاد، وبات يغلب مصالح دوله الخاصة، وهو ما بدا واضحاً في الخلافات حول التصدي لتحرك بوتين المتوقع للسيطرة على الأجزاء الشرقية، وتحييد تنامي العداء لروسيا في التخوم الغربية والوسط، وإحلال سلطة موالية في كييف، وهي خطوة لو مضت في وقت قياسي لا يمكن المجتمع الدولي والدول الغربية من الضغط على روسيا فيه، ستولد قيمٌ سياسية جديدة من رحم الجيوسياسية المفروضة بالقوة، وحينها ستكون الأمم المتحدة والدول الكبرى في مأزق «المرجعية»، وهو ما يفسر سبب الذهاب إلى الحدود القصوى من الضغط والعقوبات الاقتصادية، لكن بما لا يهدد انهيار المصالح الخاصة ما نلحظه في انتقائية العقوبات الاقتصادية والتردد والحذر الذي لا تخطئه العين في مقابل الدعم السيبراني، والتحشيد على «السوشيال ميديا» الذي يحاول التقدم بخطوة على الممانعة في الميدان.
السيادة والهوية والديموغرافية كلها اليوم مفاهيم تأسيسية رافدة لمعنى الدولة في اختبار كبير يتجاوز مسألة «الناتو» أو التحالفات أو حتى الممارسة الديمقراطية بالنسبة للروس الاختبار أكثر وضوحاً، حيث لا يمكن أن تقبل خسارة شريط حدود ممتد لأكثر من 1100 كلم، وبعمق يزيد على 800 كلم، وصولاً إلى موسكو، عدا فقدان أهم المنافذ البرية لخطوط إمدادات الغاز الطبيعي، وهو ما حذر منه بوتين مع أول شعور بالقلق من التبني الغربي لأوكرانيا عقب الثورة البرتقالية عام 2004 ضد الرئيس الموالي لروسيا.
الحرب اليوم داخل أوكرانيا لكن الرهان خارجها، حيث تحولت إلى مسرح لاستعادة الأوزان السياسية في العالم، وإعادة تموضع التحالفات والتوازنات لكل دول العالم بناء على نتائج ما يحدث، ومن هنا يمكن أن نقرأ حالة الترقب والتصريحات المتحفظة والانقسام في التأييد المطلق، أو الممانعة بشكل كامل حتى داخل الفاعلين في الحزبين الديمقراطي والجمهوري في الولايات المتحدة والدول الأوروبية، وبدرجة أقل بقية الدول العالم، حيث ولدت أسئلة تقييم الأولويات، بمعنى آخر تحولت الأزمة الأوكرانية إلى ورشة مفتوحة للتحالفات والعلاقات الدولية، لكن الأكيد أن روسيا بوتين تدرك أنها تعيش التحدي الأكبر منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، وليست المسألة في مشروع توسعي قدر أن أسئلة الجيوسياسية بلغت مأزقاً وجودياً ومقامرة عالية المخاطر في فرض صعودها مع بوتين كقوة كبرى أو عودتها مجدداً إلى الانكسار، وبين أسئلة التخوم الأوكرانية ولدت أسئلة لا تقل أهمية عن تأثير الاقتصاد السياسي وإمدادات الطاقة لتعيد الاعتبار إلى الأوزان السياسية بعيداً عن المعايير الشعاراتية التي اعتدنا عليها، وهو ما عبر عنه «معهد واشنطن للسياسات» في مقاربته للأزمة بسؤال جوهري: «لماذا تحتاج الولايات المتحدة للسعودية؟»، الرقم الصعب بحسب وصفه... وللحديث بقية.