بقلم: يوسف الديني
لا حديث اليوم كالحديث عن الوساطة الصينية والحوار السعودي الإيراني، والمقاربات كثيرة، وأيضاً كثير من الأسئلة المعلقة والجدل حول الخطوة، حتى في الخطابات الغربية. ومن هنا حيث أحضر مؤتمراً في برلين، تلقيت كثيراً من الأسئلة حول ما يحدث، والإجابة تبقى واحدة، لا شيء سوى نجاحات سعودية متكررة، لأنها تؤمن بثوابت ومرتكزات، أهمها أن المستقبل لمنطق الدولة.
صحيح أنه يحسب للصين هذه الخطوة الشجاعة، التي كرّست فيها حضورها الاقتصادي بخطوة عملاقة للوساطة السياسية، لكن نفوذ الصين ودورها ليسا مسألة جديدة. قبل سنوات كثيرة حضرت ورشة مصغرة بحثية في باريس، كان عنوانها يفسر هذا الصعود «تصيين العالم»، وكان التنبؤ بنفوذ متعاظم للصين وتأسيس لاستراتيجية طويلة الأمد بطيئة ومدروسة لتمدد القوة الناعمة الملتبسة برافعة اقتصادية وقدرة مذهلة على ابتلاع الفراغات الغربية في دول العالم النامية ومنطقة الشرق الأوسط، خصوصاً بعد تراجع حضور الولايات المتحدة أو اقتصار دورها على لعب دور شرطي العالم عن بُعد، من خلال سياسات الإرغام والعقوبات الاقتصادية، أو الضغط من خلال ملفات حقوقية. واللافت أن بدء الحضور الصيني بنسخته الجديدة حرص على الشراكات الاقتصادية والقوة الناعمة، متجنباً بشكل واضح أي تدخلات سيادية في شؤون الدول؛ ما منحه عامل جذب سياسي، وقيمة مضافة إلى الفتوحات الكبرى على مستوى الذكاء الصناعي والتكنولوجيا، والاستفادة من المنجزات الرقمية في تعزيز مركزية الدولة واستقرارها، وهو ما حول مراكز الأبحاث الغربية وخزانات التفكير إلى خلية نحل، تحاول تخصيص كثير من تحليلاتها وأوراقها صوب المارد الصيني، خصوصاً مع ارتباط نفوذ الصين في منطقة الشرق الأوسط باستثمارات مستدامة مرتبطة بمبادرة الحزام والطريق.
النفوذ الاقتصادي في عالم اليوم هو السلاح الأول المفضل للدول القوية. ولذا؛ نرى مع كل التهديدات الكبرى التي تهدد أمن الخليج ودوله، أنها - بشكل أكثر وضوحاً في السعودية ورؤيتها الاقتصادية - ماضية بقوة في إنجاز المشروعات الاقتصادية، رغم صفيح المنطقة الساخن، مع تعزيز خطوط الدفاع ومشروعات الأمن القومي والردع، من دون الانزلاق في ردود الفعل القصيرة المدى.
على مستوى دول الخليج والسعودية، فإنها تمثل السوق الأكثر أهمية والأسرع نمواً، خصوصاً بعد موجات الربيع العربي ورياحها التي قوضت استقرار دول كثيرة في المنطقة. وتشير التقديرات إلى فرص هائلة بانتظار هذه الدول، مع الاعتماد على تكنولوجيات الذكاء الصناعي الصاعدة. الأمر الذي شرعت فيه السعودية منذ تدشين «رؤية 2030» الطموحة ومخرجاتها الوطنية التي ساهمت في تجاوز تأثيرات أزمات لوجيستية كبرى، خصوصاً بعد جائحة «كورونا» التي قدمت فيها المملكة نموذجاً واعداً على مستوى استخدام التقنية والتكنولوجيا في تقديم الخدمات اللوجيستية عن بُعد، وقبل ذلك التحوّل الرقمي الهائل على مستوى الحوكمة، وتتطلع رغم التحديات إلى خلق أسواق اقتصادية كبرى على مستوى الذكاء الصناعي والرقمنة والريادة على مستوى الشرق الأوسط، خصوصاً في مجال البنى التحتية والخدمات اللوجيستية الذكية والطاقة المتجددة، إضافة إلى المجالات العسكرية والتسليح بخبرات توطين محلية.
سعي الصين الطموح لابتلاع الفراغ في منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا ودول العالم النامية هو في الأساس جزء من مشروع الصين لإعادة رسم الجيوسياسية الاقتصادية في العالم، ومن دون ادعاءات سياسية أو حقوقية أو أخلاقية، كما اعتادت البروباغندا الغربية على تمرير مشاريعها منذ عقود، خصوصاً بعد حالة التراجع والانكشاف في معالجة مناطق التوتر في العالم وطريقة الازدواجية في تناول ملفات المنطقة وفقاً لاعتبارات اقتصادية محضة.
لكن ماذا عن نجاحات السعودية، وهي الحلقة الأهم في النقاشات التي تحدث، حيث لا يمكن اليوم الحديث عن أي حوار إلا وفق «منطق الدولة» التي ترسخه السعودية كاستراتيجية أساسية، ومعها دول الاعتدال، وهو ما يعني تراجع كثير من الكوارث التي كانت تجعل المنطقة على صفيح ساخن، ومنها الميليشيا وصعودها، فاليوم مع حضور الدولة العاقلة ومنطقها ستتراجع ثقافة وسلطة الميليشيا التي كانت بالأمس أمراً واقعاً في رقعة كبيرة من الوطن العربي والإسلامي، ولا سيما البلدان التي خاضت تجربة ما عرف بـ«الربيع العربي»، وما تلاها لاحقاً من تهشم سلطات مركزية بدءاً من انهيار سلطة الدولة المركزية وصولاً إلى تفسخ عدد من المؤسسات العسكرية والدينية وتراجع قدرتها على ضبط إيقاع الفضاء العمومي والمجتمعي.
منطق الميليشيا الذي ساد المنطقة، ويتوقع أن تحتويه حوارات منطق الدولة، ظل أكبر مهدد للدولة الحديثة، فهو منطق مضاد، لكنه ليس مفهوما فوقياً مفارقاً لها كما هو الحال لجماعات العنف المسلح، التي تتوسل السياسة لتثبيت آيديولوجيتها العقائدية المتطرفة، وبالتالي لا طموح سياسياً لديها، ويمكن تحريكها واختراقها وتوجيهها واستفزازها والتنبؤ بردة فعلها بسهولة، ولا سيما من أجهزة استخبارات عريقة في التعامل مع تلك الجماعات.
حالة الفراغ السياسي، الذي يتحمل المجتمع الدولي الجزء الأكبر فيه، وكذا الولايات المتحدة، بسبب قدرتها على التأثير وحشد قرار سياسي دولي - هي ما تخلق ربيع الميليشيات، وتحول مكونات اجتماعية إلى مجموعات مسلحة قادرة على التأثير.
نجاح السعودية اليوم بالدرجة الأولى يتمثل في الحفاظ على مكون الدولة، وهي مهمة صعبة جداً وتحتاج إلى استراتيجية داخلية ومرتكزات في السياسة الخارجية، إضافة إلى تفهم ودعم دولي، وفي الوقت نفسه بحاجة إلى فهم المكونات السياسية، ولا سيما المعارضة، لفهم ما سيحدث حال انهيار الدولة، هذا الفهم والتفهم غائب في مواقع كثيرة بدول ما بعد الربيع العربي، لكنه الأخطر والأكثر قتامة في الدول التي انهارت وكانت فريسة للميليشيا والجماعات الإرهابية، باستثمارات سياسية من دول ظلت بعيدة عن منطق الدولة.
الحوار خطوة أولى عملاقة وممتازة، لكن يجب أن نكون عقلاء في توقعاتنا، وهو ما أكده وزير الخارجية السعودي، وقال إن الرغبة في الحوار فقط لا يعني التوصل إلى حل جميع الخلافات العالقة بين البلدين، ما تفعله الصين هو محاولة جادة لتعزيز التعايش والأمن المشترك في منطقتنا وعلاقات حسن الجوار بين الدول، وهذا ما يعطيها أهميتها حيث كانت المقاربات الأخرى سابقاً لا تقوم على الرعاية، وإنما محاولة اللعب بطريقة براغماتية لاستغلال الهوة بين عالمين؛ عالم ميليشيوي، وسعودية جديدة عقلانية، تحاول أن تصر على أمرين متلازمين؛ منطق الدولة ورفاهية المستقبل.