بقلم: أمل عبد العزيز الهزاني
رفع رئيس مؤتمر ميونيخ للأمن شعاراً يائساً هذا العام حمل اسم «العجز الجماعي». يرى بعد 14 عاماً من رئاسة المؤتمر المعني بملفات الأمن في العالم المتغير أنَّ هناك عجزاً أمام الأزمات التي تتصاعد في كل جهة في العالم.
ومعه حقٌّ، وهنا كثير من الأمثلة؛ المناخ، صراعات الشرق الأوسط، الخلافات الأوروبية، القلق من الصين، الخوف من الاندفاع الروسي، التوزيع غير العادل للقاحات والأغذية، الميليشيات في شمال ووسط وساحل أفريقيا، حقوق الإنسان ذات المعايير المتباينة... قضايا كبيرة وكثيرة لم تجد الحد الأدنى لمحاولات حلحلتها.
تنبؤات لأكثر من مفكر ومتخصص تتحدث عن نهاية السلطة الفردية المطلقة للولايات المتحدة، بعد تراجع تأثيرها السياسي بقرارات التخلي والانسحاب عن مناطق مهمة في العالم، ومع تصاعد الصين كقوة اقتصادية منافسة، والوجود الروسي العسكري بجوار الأوروبيين. هل كاريزما الإدارة الأميركية الناجحة أفلت للحد الذي يُخشى على الولايات المتحدة الأميركية أن تخبوَ وتنكفئَ عن صناعة السياسات العليا للعالم، في التعليم والإدارة المُثلى والقانون؟
علينا أن نؤمنَ بأنَّ القوى العظمى عبر التاريخ، كانت قوية اقتصادياً وعسكرياً للدرجة التي سمحت لها بالتمدد والتوسع الجغرافي، ثم فرض ثقافتها على العالم الأقل قوة. هذه ببساطة معادلة القوة النافذة. في الواقع الولايات المتحدة لا تزال تتمتع بهذه المتطلبات، لكن الضعف الحقيقي يأتي من تراجع سيادة المبادئ الأخلاقية التي جاء بها الآباء المؤسسون لهذه الدولة المهيمنة، والخطورة تكمن في تلك الدول الغربية التابعة، التي آمنت بهذه المبادئ إيماناً مشروطاً بتحقق المصلحة، وهي لا تملك ما لدى أميركا من قوة تمكّنها أن تؤخّرَ تأثير غياب الأخلاق.
العدالة الاجتماعية، الصدق في تطبيق المبادئ الإنسانية، الدفاع بإخلاص عن حقوق الإنسان، رعاية السلام في العالم مهما كانت التكلفة... كلها أخلاقيات رفيعة انتشرت لعقود كمبادئ أساسية للإنسان المتحضر، خاصة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية وتعهد الدول المنتصرة بحماية حق الإنسان في حياة كريمة.
ما يحصل اليوم هو انكشاف لحقيقة إيمان دول التنظير بهذه المبادئ حقاً. الأمثلة كثيرة على أن الصفوف الأولى للدول المنظّرة للحقوق والواجبات، في حقيقتها ربطت الثقافة الأخلاقية بالمصلحة، وظل هذا الارتباط قوياً لعقود طويلة جعلت بقية دول العالم تعتقد بجهالة أن تحقق التقدم لدول الغرب صار نتيجة لتمسكها بالقيم الأخلاقية. الواقع ينكر ذلك بحزم.
كندا، الدولة الديمقراطية التي تولي، بحسب تصريحات مسؤوليها، حقوق الإنسان أولوية في سياساتها الداخلية والخارجية، تصادمت مع عدة دول في آسيا وأفريقيا وأضرَّت بعلاقاتها مع تلك الدول، بسبب إصرارها على التدخل في شؤون هذه البلاد انتصاراً - بحسب كلامها - لحقوق الإنسان.
سيادة الدول أمر حساس لا تتحمله أي حكومة في العالم، لكن حكومة كندا تجد نفسها أحياناً مندفعة بشكل طفولي لتكرار الشعارات الحقوقية علناً، من دون النظر إلى التأثير المستفز لهذا السلوك، لنعرف لاحقاً أن حسابات سياسية متعلقة بالمنافسة المحلية هي من أوعزت للسياسيين الكنديين بالثرثرة ضد دول أخرى. هذا أمر عام لا يتعلق بكندا وحدها من ضمن الدول الغربية... هي حالة يمكن تسميتها متلازمة «المصلحة وعدم اليقين». لذلك لم يكن مفاجئاً أن تسقط الحكومة الكندية في خطأ فظيع بقمعها حقوق الإنسان داخل أراضيها ضد محتجين رفضوا الاحترازات الحكومية المتعلقة بفيروس «كورونا». ورغم أن المحتجين رفضوا التلقيح الإلزامي، وتقديم شهادات تثبت ذلك، لكنه يظل اختباراً بسيطاً لمدى قوة الحكومة في التمسك بمبادئها الإنسانية. اختبار فشلت فيه الحكومة على مرأى من العالم، استخدمت فيه قوات الأمن القوة المفرطة في قمع المحتجين، حتى شاهد العالم كيف تم الاعتداء اليدوي على رجل مسن، لمجرد تأييده للمحتجين. بسبب أن 25 في المائة من التجارة بين كندا والولايات المتحدة تعطلت أسبوعين نظراً للاحتجاجات، خرج رئيس الوزراء معلناً تفعيل حالة الطوارئ وتهيئة الجيش للتدخل، وكان قد بدأ بفصل الموظفين المحتجين، وتسجيلهم كمجرمين، ومنعهم من السفر للخارج، ومراقبة حساباتهم على وسائل التواصل الاجتماعي، وبعدها اختفى متعللاً بإصابته بفروس كورونا! في أسوإ خطة لمواجهة أزمة على الإطلاق. والمفارقة، أن المنظمات الحقوقية المعروفة لم تنبس ببنت شفة، لم تدن ضرب المدنيين العزل والاعتداء عليهم وتهديد حياتهم، ولم نسمع من أي دولة إدانة لأعمال العنف، أو طلب من السلطات الكندية ضبط النفس! باستثناء جو بايدن الذي حذر كندا من مغبة استمرار إغلاق الطرق!
يقول الرئيس الأميركي توماس جيفرسون: «كلما فعلت شيئاً ما، تصرف كما لو أن العالم كله يشاهدك». في دلالة على أن رأي الآخرين قد يكون دافعاً لتحسين فعل المرء، درءاً لانتقادهم.
كل عام يجتمع عشرات من رؤساء الدول ووزراء الخارجية حول العالم في مؤتمر الأمن بميونيخ الألمانية، في محاولات حثيثة لإصغاء بعضهم لبعض، للدفع بالقضايا الأمنية للتسوية. لكن هذه الدورة، وبعد عامين من انتشار الوباء، انكشف كثير من الأمور على حقيقتها.
الوباء فضح صدق المجتمع الدولي في خدمة الإنسان، وعجزه الكامل أمام واضعي السياسات التي تناهض مصلحة الإنسان والحفاظ على حياته بكرامة. ينعقد المؤتمر أيضاً في وقت نسمع فيه قرع طبول الحرب، ولا ندري هل هي حرب أوكرانيا أم إيران أم أفغانستان أم أفريقيا؛ مالي والسودان والصومال وليبيا؟ تحشد الجيوش في كل هذه المناطق، لكن الإعلام الإخباري الغربي يجذب عين الرأي العام إلى أوكرانيا، ويرسلون لها الأسلحة لتوزيعها على السكان المدنيين تأهباً للدفاع عن أنفسهم! جريمة حرب لا أخلاقية توشك أن تقع لأسباب واهية، يمكن تسريحها للمستقبل وعلاجها بالزمن.
الخلاصة، أن التناقض الأخلاقي في تناول القضايا المحلية أو الدولية يجعل الإنسان البسيط، الذي يمثل الغالبية، في حيرة، والأسوأ أنه يجعله في حذر دائم لأنه يقف في واجهة المخاطر، والضحية الأولى لكل هذا الازدواج في المعايير الأخلاقية.