بقلم: أمل عبد العزيز الهزاني
أساس التطوير هو البحث... هذه قاعدة معروفة منذ بداية الخلق. كل الدول التي بنت حضارات زاهرة كان لديها باحثون في العلوم والطب والهندسة وحتى الزراعة والصناعة. من فاز بإدارة جيدة لهذا النشاط فاز بالابتكار والتطوير والنمو؛ من الفراعنة والصينيين والرومان واليونانيين، وحتى الحضارة الإسلامية ثم الآن الغربية، وهذه الأخيرة تنظر للبحث كركيزة أساسية للتطوير وليس مجرد نشاط علمي. العالم الاجتماعي ابن خلدون ربط الحضارة بالمواد، مثل الحديد والنحاس، يعتقد أن الأمم التي استعانت بموارد الطبيعة من المعادن، استطاعت أن تتحضر، بعكس البادية التي كانت تعتمد على الطين والأخشاب، وظلت بلا إنتاجية أو تغيير ينم عن التطور. كانت ولا تزال مسألة التطور الذي يعني التغيير إيجاباً، مصدر اهتمام القيادات السياسية للدول، والسؤال عن كيفية التغير للأفضل بأقل التكاليف وأسرع في الزمن، مع الأخذ في الاعتبار ديمومة هذا النشاط.
والعمل البحثي ليس فقط لغاية تطوير المهن، هناك أنشطة أخرى تساهم في التنمية. عبادة كالحج، يأتي لأدائها مئات الألوف كل عام قاصدين الحرم المكي والمسجد النبوي والمشاعر المقدسة في المملكة العربية السعودية، تهتم الحكومة السعودية أن تكون تجربتهم الروحانية سهلة، مريحة، آمنة، تترك أثراً إيجابياً في نفوس القاصدين، هذا ما أكدت عليه «رؤية المملكة 2030». ومع أن الميزانية المرصودة لخدمة الحجاج والزوار مفتوحة، لكن تظل التحديات قائمة حول تطوير الأداء لتكون النتيجة أفضل، ومن خلال البحث العلمي والابتكار واستخدام التقنية، ساهم «معهد خادم الحرمين الشريفين لأبحاث الحج والعمرة» بالعديد من الأوراق العلمية والأبحاث المتعلقة بالصحة والبنية التحتية والأمنية والإعلام والتثقيف، ليكون كل عام أفضل من سابقه، وأصبحنا نستمع لمصطلحات جديدة كالحج الذكي، أو الرقمي، مع التطلع لاستيعاب أكبر عدد ممكن من الحجاج والزوار يصل سنوياً إلى 30 مليون نسمة.
في أول الشهر الجاري، أعلن ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان عن إنشاء «هيئة تنمية البحث والتطوير والابتكار»، التي سيكون لها دور المشرّع والممكن والمراقب للأداء البحثي. منذ سنوات، كتبت في هذه المساحة أن بلداً مثل السعودية، وبالنظر لكل مواردها الطبيعية والبشرية، عليها أن تحدد أولوياتها البحثية، لأن التفكير الأفقي سيشتت الجهود. العمل التطويري مكانه المراكز البحثية والجامعات، ومن غير الواقعي أن تعمل كل جامعة في مجالات بحثية من دون استراتيجية واضحة بعيداً عن توحيد الجهود وبلا تنسيق بين باحثيها والجامعات الأخرى. إعلان ولي العهد خدم نقطتين أساسيتين في العمل البحثي؛ الأولى: تحديد الأولويات، وهي الصحة والبيئة والطاقة والصناعة واقتصادات المستقبل. كل هذه القطاعات لن تبدأ من الصفر لأن المملكة لديها بنية تحتية بحثية جيدة، لكن دائماً وأبداً العبرة بكيفية إدارة العمليات، وما دامت وضعت خطة لاستهداف مجالات معينة سيكون العمل أكثر وضوحاً وأسهل في القياس. النقطة الثانية المهمة لعمل الهيئة هو تمكين الباحثين بعيداً عن البيروقراطية التي تقتل الأفكار في مهدها، وتعطل وتؤخر الإنجاز، من خلال توزيع الميزانيات مع مراقبة الأداء. هذه الهيئة تعمل على أن يكون القطاع البحثي عملاً مؤسسياً وليس اجتهاداً مؤسسياً. سيخصص لقطاع البحث والتطوير والابتكار من ميزانية الدولة 2.5 في المائة في عام 2040، مع توقع أن تحصل على عوائد بنحو 60 مليار ريال سعودي في العام نفسه. هذه الأرقام التقديرية تعني أن الخطة الاستراتيجية الموضوعة مؤطرة وواضحة المعالم، ويبقى للخطة التنفيذية عمل كل الإجراءات المتوقعة للوصول إلى هذه الأهداف. آلاف من الباحثين السعوديين في الجامعات السعودية والمراكز البحثية في مجال القطاعات المستهدفة، لكن البحث العلمي شبكة وليس خطاً مستقيماً، ومن الأهمية بمكان استقطاب المؤهلين من المتخصصين وعمل عقود شراكة بحثية مع كل دول العالم. هيئة تنمية البحث والتطوير والابتكار ستكون المظلة التي تضم هذا النشاط المهم، والتي تضع خريطة طريق يهتدي فيها الباحثون من دون القلق من العيوب التي كانت تشوب العمل البحثي وأهمها الإمداد، وقياس الأداء.